الجزء الأول: قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري

 الجزء الأول: 
قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. 
تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري
إنجاز الصديق الصادقي العماري
 

تحتل القرية أو المجتمع القروي مكانة متميزة في الأبحاث والدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية منذ زمن بعيد، وهي الموضوع أساسي ضمن اهتمامات السوسيولوجيا القروية على وجه الخصوص. المجتمع القروي يختزن العديد من الظواهر والإشكالات العميقة الجديرة بالدراسة والتحليل، خاصة في ما يتعلق بالفلاحة والزراعة والتوزيع العقاري والمجالي، ووسائل التهيئة، والتخلص من قيود السلطة واستنزاف الثروات والإمكانات المادية والمعنوية، وكذا العلاقة الشائكة بين القروي والمديني، والقضاء على معيقات التنمية التي تبقى باستمرار مؤجلة بفعل عوامل ظاهرة وأخرى خفية.


1.مدخل إلى السوسيولوجيا القروية

المجتمع القروي المغربي بقضاياه وإشكالاته يعد جزءا من النسق الكلي للمغرب، بل هو البنية التي تعكس تحولات وديناميات هذا النسق، ويمكن اعتباره بنية مصغرة لما يعتمل في المجتمع المغربي ككل، في هذا الصدد يقول الدكتور عبد الرحيم العطري: ″إن السوسيولوجيا القروية تسعف، وإلى حد بعيد، في فهم كثير من التحولات المجتمعية التي يعرفها المغرب القروي، كما تفيد أيضا في قراءة النسق المديني، خصوصا في ظل مجتمع تمارس فيه القروية كقيم وممارسات حضورا قويا في تفاعلات المجتمع، فالسؤال القروي يمارس علينا ثقله وتأثيره، بالنظر إلى شرط الانتماء والتاريخ والمجال، وبالتالي فإنه يعد مدخلا ومفتاحا لقراءة مختلف التحولات التي يعرفها ذات المجتمع″[1].

وبهذا المعنى، دراسة وتحليل الظاهرة القروية سوسيولوجيا من شأنها أن تساعدنا على فهم ديناميات وتغيرات المجتمع المغربي، كما أن ʺدراسة الحياة القروية بالإضافة إلى الدراسات المستمرة الآن للمجتمعات المتحضرة والبدائية يمكن أن تمهد السبيل لعقد مقارنات حقيقية بين مختلف نماذج الحياة الإنسانيةʺ[2]. فالدراسة المقارنة للحياة القروية والمدينية أساسية، على اعتبار أن العلاقة بين القرية والمدينة متجذرة، وتحدد الأولى في مقابل الثانية، أما الثانية باعتبارها تختلف عن الأولى من حيث النشاطات والممارسات المدينية.

وفي تحديده لموضوع السوسيولوجيا القروية، وأهم انشغالاتها الكبرى، أكد الدكتور عبد الرحيم العطري أن ʺ′القرية كنسق مجتمعيʺ يمكن أن يكون هذا التوصيف واحدا من الانشغالات العلمية للسوسيولوجيا القروية، ويمكن أن يكون العنوان الأبرز لذات الانشغالات، لكنه ليس الوحيد، فالسوسيولوجيا القروية تجعل من المجتمع القروي هدفها الأثير الذي تتوجه إليه بالدرس والتحليلʺ[3]. السوسيولوجيا القروية، بهذا المعنى، علم يهتم بدراسة المجتمع القروي بكل مكوناته وأشكاله وقضاياه، حيث هناك الفلاحة والزراعة والري والماء، والقبيلة والعلاقات الاجتماعية التي تحكمها، وأنماط العيش، والأشكال الثقافية والزوايا والأسرة والتعليم، والمخزن وأدواره الرئيسية وكل تفرعات السلطة من الشيخ والمقدم والقايد، إضافة إلى مؤسسة اجماعة والتنظيمات الإدارية التقليدية والحديثة وغيرها من الموضوعات والبنيات التي تشكل الهيكل والمحتوى للظاهرة القروية أو المجتمع القروي.


النسق الاجتماعي أو المجتمع القروي، يمكن تحديده بناء على تقسيمات معينة، وبالتالي، حسب ردفيلد Redfield، يتكون من ʺطبقتين متمايزتين، الأولى ″القرويون″ الذين يملكون أرضا أو يزرعون أرضا عن طريق الإيجار ويعيشون وتكون طريقتهم في الحياة معتمدة على الأرض، وليست الزراعة بالنسبة لهم عملا مربحا، والثانية أولائك ″المزارعون″ الذين ينظرون إلى الأرض على أنها مصدر من مصادر الربح، والأرض أيضا عبارة عن نوع من أنواع رأس المالʺ.[4] حسب هذا القول، النسق المجتمعي القروي يتكون من قرويين ومزارعين، يختلفون فيما بينهم من حيث طريقة تعاملهم واستغلالهم للأرض بشكل ربحي أو غير ربحي، لكن هل يمكن الحديث عن قروي من دون حرث واستغلال الأرض؟ وإذا كان هناك قروي يعتمد على الأرض ولا تعتبر بالنسبة له مصدر بح، من أين يحصل قوته اليومي.

محتوى القراءة

الحديث عن المجتمع القروي اليوم كموضوع للدراسة والتحليل من قبل السوسيولوجيا القروية، يختلف عما كان يعتقد بشأنه سابقا، فهو بعيد عن التقسيمات والحصر المجالي ولو بشكل نسبي، ʺإننا في العصر الحاضر أمام مجتمعات متداخلة ودائمة التلاقح والتبادل والتحول لدرجة يصعب معها القول بوجود أو بقاء مجالات قروية خالصة أو مجالات مدينية خالصة على غرار ما أوضحته نظرية السمات أو المتصل الريفي الحضري Le continuum rural/urbain الذي وضعه رادفييلدRedfield [5]. وفي نفس السياق تذهب الباحثة رحمة بورقية إلى أن "المجال كمعطى سكوني لا وجود له، كما لا وجود للتقسيمات العامة والثابتة المعبر عنها بالمجال الحضري والمجال القروي"[6].


وفي إطار حديثه عن نشأت السوسيولوجيا القروية، والظروف والحيثيات التي كانت وراء التأسيس لهذا العلم، يؤكد الدكتور عبد الرحيم العطري أنه: ʺفي سياق أزمة عالم ما بعد الحرب تمت دعوة علماء الاجتماع للاشتغال على القرية أملا في تطوير قدرات التغيير في المجتمع القروي، وقد ترجم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا في السوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي، والسوسيولوجيا الفرنسية التي اختارت درب المونوغرافيات، وهذان الاتجاهان هما اللذان حسما لحظة التأسيس العلمي للسوسيولوجيا القروية، هذا مع التأكيد على أن كلا الاتجاهين لم ينقطعا عن استثمار علوم أخرى كالجغرافيا والأنثروبولوجيا بدرجة أولىʺ[7].

من هذا المنطلق، يتضح أن بروز علم الاجتماع القروي كفرع من فروع السوسيولوجيا العامة جاء نتيجة الأزمة الخانقة التي تعرض لها المجتمع جراء الحرب، وبذلك تعالت الأصوات من داخل العديد من التخصصات، وعلى وجه الخصوص الأمريكية والفرنسية، وهذا ما يبرز بالتأكيد القضايا الشائكة والمركبة للمجتمع القروي حيث لا يكفي في دراسته حقل معرفي أو حقلين، بل يحتاج إلى تكامل حقول واتجاهات علمية مختلفة، لأن هناك الثقافي والمجالي والعلائقي والجغرافي والفلاحي والبيئي والزراعي والسياسي والاقتصادي والإيديولوجي والرمزي...، إن العالم القروي جامع لكل الإشكالات والأحداث والوقائع الاجتماعية.

وبالنظر إلى جل الدراسات والأبحاث والانشغالات التي تأسست عليها السوسيولوجيا المغربية، على وجه الخصوص منذ نشأتها إلى الآن يتساءل الدكتور عبد الرحيم بقوله: ʺألا يمكن القول بأن السوسيولوجيا المغربية في مجموعها هي سوسيولوجيا قروية؟ فلا السوسيولوجيا الكولونيالية، ولا الأخرى التي تلتها بعد الاستقلال استطاعت أن تقلص من حضور السؤال القروي ضمن خارطة اشتغالهاʺ[8]. هو تساؤل يفيد في نفس الوقت التأكيد على أن السوسيولوجيا المغربية منذ نشأتها ظلت وفية لقضايا القرية وبنياتها وإشكالاتها الكبرى، سواء قبل الاستعمار أو خلاله أو بعده.

 فقد كان الهاجس قرويا منذ البدء مع باحثين أجانب، أمثال روبير مونطاني وميشو بلير وغيرهم من الأجانب الذين أنجزوا أبحاثا ودراسات حول القبيلة والزوايا والسلطة داخل القبيلة، ومغاربة من بعد، إذ ʺحاول محمد جسوس منذ البدء أن يؤجج النقاش السوسيولوجي حول المجتمع القروي، معتبرا إياه الحقل الحيوي الذي يترجم ويكشف مجموع تفاعلات النسق المغربي...... وقد كان بول باسكون بمعهد الزراعة والبيطرة بدوره يؤسس لسوسيولوجيا قروية تدمن البحث الأمبريقي، وتستقي نظرياتها وتوجهاتها من الميدانʺ[9]، كذلك عبد الله حمودي ورحمة بورقية وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي وغيرهم.




-[1]عيد الرحيم العطري، المسألة القروية في المغرب، الأرض والسلطة والمجتمع، مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس، المملكة المغربية، أبريل 2017، ص12.

[2] محمد عاطف غيث، دراسات في علم الاجتماع القروي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ب.ت، ص8.

-[3]عيد الرحيم العطري، المسألة القروية في المغرب، الأرض والسلطة والمجتمع، ص 14.

[4]Redfield, R, Peasant Society and culture, Chicago, 1955, pp 29-30 .

[5]عبد الرحمن المالكي، الثقافة والمجال دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب، منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية، فاس، 2015، ص. 27

[6]رحمة بورقية، الدولة والسلطة والمجتمع، دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، دار الطليعة، ط1، 1991، ص  135.

-[7]عبد الرحيم العطري، المرجع السابق، ص 18.

[8]عيد الرحيم العطري، المسألة القروية في المغرب، الأرض والسلطة والمجتمع، ص 19.

[9]عيد الرحيم العطري، المرجع السابق، ص 20.

 
 
................................................

موقع الأستاذ الصديق الصادقي العماري
adkorasat1@gmail.com

تعليقات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

مجلس تدبير المؤسسة آلية للتأطير والتدبير التربوي والإداري

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات2

مشاركات

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3