الخلفيات النظرية لإعداد الممثل عند قسطنطين ستانيسلافسكي/الصدبق الصادقي العماري


الخلفيات النظرية لإعداد الممثل عند قسطنطين ستانيسلافسكي
الصدبق الصادقي العماري
المسرح وفنون الفرجة


v     تقديم
بدأ المسرح جدليا في تكوينه الأول، والجدل أسس مفهوم الصراع للدراما، وكان صراعا من أجل الحياة، من أجل ما هو مهاب وما هو مرغوب... من بدأ؟...الفعل أم الفكرة؟... وكل يحقق ذاته. فتطورت الفكرة و أصبحت أفكارا، وتطور الفعل و أصبح تقنية. وقد عاش المسرح جدلية التعايش والتناقض بين الأفكار والتقنية... وبالتالي عاش فن الممثل هذه الجدلية، وبنى تطوره على هذه الثنائية، مرة في داخله وتارة في خارجه... وكثيرا ما نجد أحد أقطابها في خارجه... أو داخله... وهكذا عبر الزمن والتاريخ والتراكم المستمر مما كفل له البقاء والديمومة دون غيره من الفنون.
تصارعت الأفكار مع التقنية في البدء، مع وضع اللبنات الأولى وتعزيز الدراما بفكر الشعراء وتقنيتهم، فبذروا الشعر الملحمي، ثم الشعر التعليمي، والشعر الغنائي... وتبعتها الطقوس الباخوسية منفصلة معبرة عن تجربتها الإنسانية، فتلاقحت الأفكار الشاعرية مع الفعل الطقوسي... فأنتجت الدراما فعلا وفكرا... ومن هنا بدأت جدلية الممثل بين ذاته وأدائه حينما حقق ثيسبيس الطفرة الكبرى في تاريخ المسرح، حيث قفز إلى المنضدة وتربع فوقها وسط الدائرة، وأستقل بجزء من الإنشاد، بل بدأ يتبادل جملا مع الديثرامبوس مع بقية أعضاء الجوقة... مستعينا بالأقنعة...
هكذا وجد الممثل نفسه في مواجهة ذاته وأدواته… مثله مثل إنسان عصره… عاريا أمام مرآة الواقع الجديد، لا يرى سوى العالم والكون ونفسه بهواجسها وتساؤلاتها وقلقها العميق أمام الأسئلة العصرية، وبالتالي أصبح الممثل مضطرا إلى العمل وفقا لوضعية العصر الشكسبيري… الذي وضع اللبنة الأولى لفن الممثل… وفي نفس الوقت أضاءت إشكالية الازدواج والمجادلة بين ذات الممثل وأدائه. ومنها صعدت القيمة الفردية، وتضخم الذات الذي ساهم في ظهور الممثل النجم ليكون هو مضمار الإبداع التمثيلي بمعزل عن حياة الدور .وبين هذا وذاك نطرح مجموعة من التساؤلات نذكر من قبيل: ما هو منهج قسطنطين ستانيسلافسكي في إعداد الممثل؟ وكيف يرى عمل الممثل الداخلي والخارجي فيما يتعلق بنفسه؟ وكيف يتصور عمل الممثل الداخلي والخارجي فيما يتعلق بالدور؟
v     قسطنطين ستانيسلافسكي
ممثل ومخرج مسرحي روسي ولد سنة 1863م بموسكو وتوفي سنة 1938م، يعتبر أحد مؤسسي المسرح الحديث، حاول ابتكار أسلوب أداء الأداء الصادق عند طريق جعل ممثليه يدرسون الجانب الداخلي أو الحياة الداخلية للشخوص كما لو كانوا أناسا حقيقيون، بأن يعيش الممثل حياة الشخصية بمعزل عن شخصيته الطبيعية. أسس مسرح موسكو للفن عام 1898م، و أصبح مشهورا بالعروض الواقعية. ومن بين المسرحيات التي قام بإخراجها ومنحته شهرة كبيرة هي مسرحية ″النورس″ عام 1898م، وهي أول تجربة إخراج قام بها. ومن ضمن أعماله كتاب ″بناء الشخصية″ باللغة الإنجليزية، وكذلك كتاب ″إعداد الممثل في المعانات الإبداعية″ بالإنجليزية ترجمة الدكتور شريف شاكر.
v     منهج قسطنطين ستانيسلافسكي
وضح ″ستانسلافسكي″ في منهجه الأسس النظرية لدراسة فن التمثيل، وعمل الممثل مع نفسه وعلى الدور، فإذا أمعنا النظر في تلك الأسس سنجد أن ستانسلافسكي لم يستند إلى تجربته الخاصة وحسب بل اعتمد على كامل الإرث المسرحي الذي عاشه لنفسه وللآخرين ودرسه على امتداد واقع امتد إلى عشرات السنين. وعليه فإن المنهج لم يكن حصيلة تجربته الخاصة فقط بل كانت كل متكامل لمجمل تقاليد المسرح الواقعي اعتمد فيها على دراسة الأسلاف الذين سبقوه والمعاصرين الذين زامنوه أيضا. كان يشير دائما إلى نظريتهِ التي بدأت من تجارب ″شجبكن″ وآخرين غيره من أعلام المسرح الواقعي الروسي، الذين تناولهم بالدراسة كما تناول بالدراسة أيضا تجارب الكثير من زملائه و تلامذتهِ، الذين لم يهمل أعمالهم المتميزة والتي تركت أثرا في مسيرة المسرح العالمي، كما أكد على تجارب مسرح مالي في لينينغراد واعتبرها من أهم التجارب. وبهذا يكون قد تناول بالاعتزاز المؤثرات الثقافية الفاعلة التي عاشها، بل لقد ناضل ستانسلافسكي ضد سقوط الثقافة الواقعية وتناولها بالدراسة في كافة مراحل تطورها، كما تناول بالدراسة أيضا تجارب بعض الممثلين الألمان والفرنسيين. إضافة إلى دراسته لتاريخ المسرح الأوربي بشكل عام في القرن الرابع عشر. لقد تعمق بمعرفة البساطة والفخامة معا في تراجيديات شكسبير وكوميديات مولير. وفي أعمال لمقنني وواضعي أسس ودراسات في الدراما آخرين عظام.
وبالتالي طريقة ستانسلافسكي  فيإعداد الدور المسرحيجاءت خلاصة وثمرة لتجربة طويلة استقاها من تدريباته علي  نفسه ممثلا ومخرجا ومن تلاميذه، حيث كانيعدهم لأدوارهم التمثيلية،إضافة إلي  دراسته لأساليب الممثلين العظام فيعصره من أمثال الإيطالي ″توماس سلفيني″  وفيالعصور السابقة عليه،وهذا ما جعل ″لي ستراسبرج″ يقول: "إن منهج ستانسلافسكي ليس جديدا كما نتصور. إن العمل الذينقدمه ونطلق عليه اسم "المنهج" ليس إلا المحصلة النهائية لتجارب كبار ممثليالماضيوذكريات وملاحظات مدونة تركوها لنا وسجلناها نحن حسب تجاربنا. إن ما نفعله من بعده هو أن نجعل هذه المادة فيمتناول الممثل الشاب حتينوفر عليه خمسة وعشرين أو ثلاثين عاما يقضيها فيأبحاث مضنية للتوصل إليهذه الأشياء بنفسه".[1] وهنا التأكيد على أهمية المنهج وعلى أنه لا يعد قارا وثابتا، بل في إطار التجديد والتطعيم وفق متطلبات كل عصر، وعمل الباحث من بعد ستانيسلافسكي هو توفير المادة العلمية للمثل من أجل التكوين وتوفير الجهد و الوقت.
لقد كان مسرح الفن بموسكو الذي  أسسه مع ″نيمروفيتشي دانشنكو( 1885-1943 ) مقره لتحقيق وتنفيذ طريقته في التمثيل والتي أخرجها في عديد من كتبه "حياتي فيالفن" و"بناء الشخصية" و"إعداد الدور المسرحي"، "إعداد الممثل"، و "فن المسرح".. إلخ. وكلها أعمال تركز بالأساس على الاهتمام بالجانب السيكولوجي لشخصية الممثل، والتي ترتكز بالأساس على فهم واستيعاب الشخصية المفترضة فوق خشبة المسرح، والأخذ بعين الاعتبار المسافة الموضوعية بين الشخصية العادية و الشخصية المتقمصة، من حيث الانفعالات والحركات و التموضع الهادف....الخ.
ورغم ممارسة ستانسلافسكي  لطريقته في إعداد الممثل والتنظير لهذه الممارسة في  كتبه لم يرد لطريقته أن تكون كهنوتا ملزما لمدربي التمثيل الذين يعتنقونها، بل إنه كان يري الحق وكل الحق لهم في تطويرها كل حسب بيئته ومناخه التمثيلي الذي يعاينه، ليس هذا فقط، بل يري أن الآخرين لهم الحق في تحقيق طريقتهم في إعداد الممثل استقاء من تجاربهم وممارستهم للعمل المسرحي.
وطريقة قسطنطين ستانيسلافسكي في إعداد الممثل للدور المسرحي تقوم على ركيزتين أساسيتين :
ü      عمل الممثل الداخلي والخارجي فيما يتعلق بنفسه
ويقصد بالعمل الداخلي هو تطوير التكنيك الداخلي  للممثل، إذ يستخدم ما يسميه ستانسلافسكي "التكنيك السيكولوجي" للعديد من الآليات والتمارين المحددة مثل التخيل والتوهم الإبداعي  الخلاق، واسترخاء العضلات الجسمية والذهنية، والذاكرة الانفعالية، و "لو" السحرية، والظروف المعطاة، والاتصال الوجداني  والمادي  بين الممثلين والإحساس بالصدق الداخلي.. إلخ. كل ذلك من أجل أن يهئ حالة خلاقة فيعقله الواعي وغير الواعي  تساعده علي  هبوط الإلهام في  سهولة ويسر، مما يحقق له حالة من الإبداع وتقمص الشخصية المفترضة على خشبة المسرح.
أما المقصود العمل خارجي عليالنفس، حسب ستانسلافسكي، هو تطوير التقنيات الخارجية للممثل، والممثلة في  جهازه الجسمي، فجسم الممثل هو آلته التي يعزف بها دوره، بل هو خامته التي  يشكل منها هيئة الشخصية التي  يجسدها، ومن ثم، لابد أن يكون للممثل جسد معد إعدادا صحيحا،عضليا وحركيا وصوتيا، بتدريبات عضلية تحقق له قواما مشوقا بتدريبات أثقال مناسبة، ومبارزة وسباحة وركوب الخيل، إضافة إلي  تدريبات حركية علي  كل ألوان الرقص قديمة وحديثة حتي يكتسب مرونة جسدية سلسلة في  الحركة والإشارة تمنحه قدرة تعبيرية في  فضائه التمثيلي  ومتحررة من التقلصات والتوترات العضلية، كما يقوم بتدريبات على الأداء الصامت تساعده علي  امتلاك حصيلة من الإيماءات والتعبيرات الجسدية تثريأداءه التمثيلي، وبجوار ذلك يقوم بتدريبات صوتية من إلقاء وغناء حتى  يحقق صوتا مسموعا رنانا معبرا، وصمتا دالا عند الحاجة، ومن الضروري أن يكون الممثل ملما وعلى معرفة بكل التدريبات الجسمية المتطورة، ويأخذ منها ما يفيد بناءه الجسمي. لذلك يقول ستانسلافسكي: ″تساعد المعاناة الفنان على تحقيق الهدف الرئيسي في الفن المسرحي، هذا الهدف الذي يكمن في خلق حياة النفس الإنسانية في الدور، و التعبير عن هذه الحياة في شكل فني على خشبة المسرح.″[2]
ü      عمل الممثل الداخلي و الخارجي فيما يتعلق بالدور
ويعني بالعمل الخارجي هو بحث الممثل في دراما النص عن سمات خاصة في الشخصية كأن يمنحها بعضا من اللازمات الحركية والصوتية أثناء الحديث كالفأفأة أو الثأثأة واللجلجة واللثغة أو عيوب جسدية كالحدبة أو العرج .. إلخ، وعموما عليالممثل أن يفكر في هيئة الشخصية خارجيا سواء ملبسها أو اكسسوارها أو مكياجها وتصفيف شعرها.. إلخ.
ومن ناحية عمل الممثل الداخلي على الدور يجب أن يعي الممثل أولا أن أي نص معروض لجمهور ما، حتي ولو كان لمؤلف أجنبي ومن عصر مختلف، فإنه معروض لجمهوره هو وفي زمنه حتى ولو كانت بيئة الأحداث وزمنها تبحر في مكان مغاير وزمن مغاير، ومن ثم على الممثل أن يبحث في عصره عن وسائل اجتماعية أو تاريخية يربط الدور المسرحي بصلة ما بواقعه، و يتأتى ذلك من وعي الممثل بلحظته الحضارية في مجتمعه، وبدراسة محتوىالنص المسرحي لمعرفة خطابه ومعناه وبنيات الشخصية التي سيجسدها من الناحية العقلية والنفسية والاجتماعية والجسمية، بل أيضا الدور الوظيفي لها في دراما النص.
ويتحقق ذلك بمعرفة فن وخصائص الكتابة المسرحية لدى مؤلف المسرحية، وأن النص الدرامي كل لا يتجزأ سواء في بنياته الأساسية المتمثلة فيالفعل والشخصيات والصراع والحوار أو فيإرشاداته المسرحية والتي تمثل نص المؤلف الثانوي لمسرحيته والتي دائما ما تكشف عن إيماءة أو حركة أو انفعال أو طريقة إلقاء.. إلخ للشخصية تظهر الجانب العاطفي لها في لحظة مسرحية معينة، وأيضا الجانب السلوكي في خط  فعلها المستمر فيعالم الدراما.
وعليه فحذف أي وحدة بنائية في بنيات النص الأساسية أو الثانوية مهما صغر حجمها سوف يسبب خللا في بنيات النص الأساسية أو الثانوية وفي خط الفعل المتصل فيسلوك الشخصية نفسها،ممايؤديإليعدم اتساق في تصرفاتها حال تجسيدها أثناء لحظاتها المسرحية المتنامية وخاصة فيالمسرحيات جيدة البناء والمتماسكة.
وإذا كان ستانسلافسكي بلور طريقته في تجسيد الشخصية بالتركيز عليالجانب الروحي لها لإبراز شكلها النفسي والبدني إلا إنه أوصي ممثله "إذا لم يجد بعد المفتاح الذي يفتح مغاليق الأبواب الروحية للدور، فعليه الانتقال من الجانب الخارجي للدور إلي جانبه الداخلي، لأنه بهذا يصيب قدرا من النجاح في كثير من الأحيان إلي اختراق بعض الألغاز والحجب المستورة ومن ثم كان في إمكانه أن يسير في الطريق الداخلي-الخط الروحي- لتطور الدور". هذا الأمر جعل ″د. محمود أبو دومه" يقول: أن طريقه أو منهج ستان في التمثيل مرت بمرحلتين؛ الأولى التي  "رأى فيها أن ينطلق الممثل نحو بناء دوره المسرحي عن طريق تحديد السمات الداخلية للشخصية المصورة التي يؤديها الممثل، حتى يصل إلى الملامح الخارجية للدور، بمعنى أن ينطلق الممثل نحو تحديد عاطفة الشخصية وبنائها الوجداني، ثم يطور هذه الأبنية الداخلية حتى يصل إلي رد الفعل الجسماني الخارجي أو الملامح الخارجية للشخصية، أما المرحلة الثانية فهي أن يبدأ الممثل من الملامح الخارجية للدور ثم يقوم بتحليل الشخصية عن طريق الفعل الجسدي وهو ما أسماه ستانسلافسكي بالتحليل بالحركات الجسدية، وتنهض هذه بطريقة على تحديد الملامح الخارجية للدور المسرحي ثم استخدام هذه الملامح كمثير للطاقة الداخلية والانفعالية والعاطفية".
وسواء بدأ الممثل في تحديد ملامح دوره من الداخل أولا أو من الخارج فإن أسلوب أداء الممثل لن يتأثر تأثرا جوهريا لأن الانفصال بين الداخل والخراج هو انفصال نظري فقط  فالأجهزة العصبية للكائن الإنساني لا تعمل بانفصال، ولا تعمل أيضا بالتناوب، ولكنها تعمل جميعا داخل وخارج الإنسان في وقت واحد، فلا يمكن التعبير عن الخوف أو الغضب أو الحب دون أن يكون هناك تعبير وجداني وتعبير حركي في نفس الوقت.
ولكي لا يتجاوز الممثل/ المخرج المادة التي يعمل عليها (النص) فلا بد له من تفهمها تفهما جيدا حتي تكون معونة لتجسيد الشخصية الدرامية، وليتحقق ذلك يمر الممثل بثلاث مراحل قد يتداخل بعضها في البعض الآخر: مرحلة قراءة النص لمعرفة أفكاره الحاكمة وعالم شخصياته ومشكلاته، والمرحلة الثانية، إعداد الدور طبقا لطريقة أو منهج ستانسلافسكي، وسيكون ذلك من خلال طرحنا لتكنيكه السيكولوجي، وذلك أثناء البروفات، وثالثا، كيفية الاستفادة من طريقته لتنفيذ الشخصية الدرامية فوق منصة التمثيل، بعد أن حدد الممثل طبيعتها وهيئتها أثناء البروفات بما يعرف بفن العرض.
v     تقريب المسافة بين ذات الممثل وبين الشخصية
سعى ستانسلافسكي إلى تقريب المسافة بين ذات الممثل وبين الشخصية عن طريق نظريته: التقمص أو الاندماج. بمعنى حلول الشخصية الفنية محل شخصية الممثل بتوازن، وفق خطته التي وضعها في مؤلفاته- كتاب حياتي في الفن من جزئين- حيث يعرض فيه منطلقاته الأساسية في الفن المسرحي، معتمداً على تجربته الذاتية. ويتألف القسم الأول من جزأين بعنوان (عمل الممثل مع نفسه، وهما إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية (الداخلية). وفي المعايشة والتجسيد (الخارج). والقسم الثاني هو كتاب عمل الممثل مع الدور[3]. ومن خلال تجربته في استديو الممثل توصل إلى أن التقمص الفني هو عنصر الخلق في المسرح إذ تمتزج فيه العناصر العقلية والنفسية والجسدية، في كل مترابط لخلق الشخصية التي يؤديها الممثل في العرض المسرحي.
فالممثل فنان يشكل فنه من مادته النفسية والجسدية والعقلية، ولكي يحقق التشخيص أو خلق الدور فنيا، لابد أن يضع في اعتباره منظورين، الأول يعود للدور، والثاني يعود للممثل نفسه، وأسماه ″ستانسلافسكي″ منظور الفنان ومنظور الدور، ويشرح حقيقة أداء الفنان لدوره وطبيعة اندماجه معها فيقول: ″تصوروا: إنكم تخلقون بصورة منطقية ومترابطة حياة بسيطة سهلة المنال لجسم الدور الإنساني، وفي النتيجة تشعرون فجأة داخل أنفسكم بحياة إنسانية مماثلة للمادة التي تناولها المؤلف للدور من الحياة الواقعية بالذات، من الطبيعة الإنسانية لأناس آخرين.″[4] فمثلا شخصية "هاملت″ على خشبة المسرح، لا ينبغي له أن يعرف نهايته ومصيره، بينما لابد للممثل أن يرى هذا المنظور، وإلا فإنه لن يكون قادرا على توزيع أجزاء هذا المنظور والوعي به، وتلوين هذه الأجزاء، وتظليلها، وتكوينها بصورة صحيحة، لذلك حدد ″ستانسلافسكي″ للممثل: ″أن مستقبل الدور هو مهمته العليا فلتسعى نحو الشخصية في المسرحية، أما منظور الفنان، فعلى النقيض من منظور الدور، يجب أن يأخذ المستقبل في الاعتبار دائماً.[5]
يعتبر ″ستانسلافسكي″ التقمص الفني تاجا للممثل وقمة فنه، فإذا ما مثل الممثل نفسه من غير خلق الشخصية، فإنه يخل بالفن المسرحي، فإن أساس العمل المسرحي هو خلق الشخصية والامتزاج، وهو واجب من واجبات الممثل المهمة، وأن القدرة على التقمص الفني في رأيه هي المهمة الأولى للممثل، إنه يقول: "جميع الفنانين بلا استثناء هم خالفوا شخصيات وعليهم أن يتقمصوا ويكونوا ذوي سمات متميزة"[6]. إذن على الممثل أن يخضع ذاته وأفكاره ومشاعره لجميع الدقائق والخصائص الإنسانية. و″ستانسلافسكي″ إذ يعتبر قانون التقمص الفني واندماج الممثل مع الدور هو التجسيد، ويعتمد أساسا على ثراء الطبيعة الإنسانية واستعداد الممثل التقني من إعداد وتدريب، وعلى القوى الثلاث المسئولة عن حياتنا النفسية، وهي العقل والإرادة والشعور*. فعقل الممثل يساعده ليستخدم في ذكاء عناصر التقنية، والتي ستثير بدورها حياته الداخلية. إن عقل الممثل يساعده في الحكم على المسرحية، وتقدير دوره وكل ما يتعلق به من كلام أو فعل، والإدراك يلعب دورا مهما في هذا المجال، و″ستانسلافسكي″ يرفض الخلق الغير واعي.
وقوة الإرادة الصلبة تعد بالنسبة للممثل عاملا هاما عظيما، فهي التي تساعده على التركيز على الأشياء المختلفة، وتعاونه في استخدام خياله، أو في تنفيذ موضوعاته. إن إرادته هي التي تجعله يفعل ما يجب أن يفعله، عندما يجب أن يفعله، يجب استثارة الشعور والانفعالات*، إذا ما أراد الممثل أن تكون الشخصية التي يخلقها حية، وعندما يستطيع الممثل أن يتحكم في شعوره وانفعالاته وإرادته، وعقله، فإنه يستطيع أن يخلق وأن يعيش الحياة المشابهة والموازية للشخصية التي يصورها.
وقد نادى ″ستانسلافسكي″ بأهمية العلاقة بين الممثل والمخرج لتحقيق رؤية موحدة وعمل موحد ومؤثر للوصول بمهنة المسرح إلى الهدف الأعلى بقوله : (إن العلاقة الوطيدة بين ممثل ومخرج، هي أساس خطوات العمل المسرحي الذي يتجه إلى التسريح بغية الوصول معا إلى بذرة الدراما المسرحية ليواصلا السير حثيثا إلى الأمام في اتجاه تجسيد أهم أحداث العرض المسرحي)[7].
فتح ستانسلافسكي تجربته المسرحية أمام معظم مسرحيي عصره آنذاك، وحاول أن يتعلم من المدارس والتيارات المسرحية، فدعا أصحاب التجارب للعمل في مسرحه، كما أنه عرض مسرحياته في بعض البلدان الأوروبية. لم يتوقف عن العمل، فالتوقف بالنسبة إليه موت، لذلك كان يقوم برحلات مع أعضاء الفرقة إلى المدن والبلدات والأقاليم الروسية لجمع معلومات مثل الأزياء والآلات الموسيقية والأفكار والتعرف إلى الأماكن، إلا أنه كان يعاني دائما من قلة المال، فتحالف مع بعض الصناعيين الوطنيين لإنجاز عمل مسرحي دائم.‏‏
عمل ستانسلافسكي خلال السنوات الطويلة على جذب المتفرج إلى مسرحه، واعتاد المتفرج على حضوره، فدرس قواعده وأسس لذائقته فنا راقيا فاكتسب جمهورا كبيرا. وما أن اندلعت ثورة أكتوبر واجتذب المسرح مختلف شرائح الشعب الروسي، تغيرت مهمة مسرح موسكو الفني. وكان يجب أن يستوعب هذه الجماهير المحتشدة أمام الصالة، ويقدم لها عروضا مفيدة، ويتوجه إليها بأسلوب جديد، فرأى ستانسلافسكي أن الفلاح أو العامل لا يحبذ ولا يفضل مشاهدة عرض مأخوذ من حياته التي يعيش فيها لأنه مل هذه الحياة ولأنه يعيشها وشبع من رؤيتها، ومن الأجدى أن يجد متعته في مشاهدة حياة الآخرين، ويطمح إلى رؤية حياة أجمل، أو حتى أن يتلصص على أسرار حياة الآخرين.‏‏
كان المتفرج الجديد يتلقى العروض بلا وعي، ولم يفهم بعض المقاطع، وبالتالي لم تثر الاستجابة المألوفة ولم يضحك في الصالة. لقد كان التأثير المسرحي يطال جميع المتفرجين وليس إنسانا واحدا، وهكذا استفادت التيارات المسرحية منه كونه قابلا للتطور والتجدد. 
بيبليوغرافيا
ü    قسطنطين ستانسلافسكي، إعداد الممثل (في المعانات الإبداعية)، ترجمة الدكتور: شريف شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
ü    صالح سعد- الأنا- الآخر. ازدواجية الفن التمثيلي- عالم المعرفة، الكويت- العدد 274- أكتوبر 2001.
ü    شريف شاكر- واقعية ستانسلافسكي في النظرية والتطبيق- (دمشق منشورات اتحاد الكتاب العرب- 1981.
ü    قسطنطين ستانسلافسكي، إعداد الممثل في التجسيد الإبداعي، الجزء الثاني، ب.ت.
ü    كمال الدين عبد- مناهج عالمية في الإخراج المسرحي- سان بيتر للطباعة- 2002.





[1]لي ستراسبرج، العمل في ستوديو الممثل، ص49.
[2]قسطنطين ستانسلافسكي، إعداد الممثل (في المعانات الإبداعية)، ترجمة الدكتور : شريف شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 63.
[3]صالح سعد- الأنا- الآخر. ازدواجية الفن التمثيلي- عالم المعرفة، الكويت- العدد 274- أكتوبر 2001- ص166.
[4] شريف شاكر- واقعية ستانسلافسكي في النظرية والتطبيق- (دمشق منشورات اتحاد الكتاب العرب- 1981م- ص87).
[5] قسطنطين ستانسلافسكي، إعداد الممثل في التجسيد الإبداعي، ص193.
[6]شريف شاكر، المرجع السابق، ص90.
*الشعور Feeling: هو الخبرة الذاتية التي يدركها الفرد كحالة داخلية مثل السرور والحزن، محمود حموده، مرجع سابق، ص71.
*الانفعالاتEmotion: الحالة الحيوية التي تنشأ من التغيرات الفسيولوجية الحادثة، كإستجابة لشعور ما، وتميل للمحافظة عليه أو إلغائه، نفس المرجع السابق، ص71.
[7]أ. د كمال الدين عبد- مناهج عالمية في الإخراج المسرحي- سان بيتر للطباعة- 2002- ص571.
................................................
 موقع الأستاذ الصديق الصادقي العماري 

تعليقات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات2

مشاركات

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

الجزء الأول: قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3