الصديق الصادقي العماري: مفهوم النقد الفني

مفهوم النقد الفني
الصديق الصادقي العماري

تقديم:
إن الإرث الإنساني الحضاري الذي ورثناه عبر الحقب التاريخية المختلفة، من معمار ورسم وموسيقى وتشكيل ونحت....وغيرها من الإبداعات الفنية، ساهم في بروز النقد الفني من أجل شرح وتوضيح وتفسير الأساليب الفنية من حيث المعاني والمضامين لخلق حالة فنية غنية تؤدي إلى إسعاد البشرية و إغناء الحضارة الإنسانية من خلال الفنون الرائعة. وتخضع قراءة العمل الفني إلى دراسة بما تستلزمه من قواعد وتقنيات ووسائل منهجية، وإلى خلفيات ومرجعيات القارئ وموقفه إزاء العمل الفني، والناقد الفني هو متذوق في أعلى درجات نمو الرؤية الفنية؛ لأن ثقافته في الفن و في تاريخه وتقنياته تصل إلى حد الاختصاص، على عكس المتذوق العادي الذي ينظر للعمل الفني في سطحيته ومظهره الخارجي، يعتمد في قراءته على ثقافة وممارسة في الاطّلاع على الأعمال الفنية فقط، مما يدفعه إلى إصدار حكم على العمل الفني غير مؤسس على قواعد وأصول فنية، إذ أنه يساهم في اقتناء الأعمال الفنية.
 
وقد استطاع الفنان منذ فجر التاريخ أن يعبِر عن أحاسيسه بما قدمه من أعمال فنية ورسومات مازالت قائمة إلى يومنا هذا، وهنا برز دور الناقد الفني الذي فسر وحلل ووضح لنا ماهية هذه الفنون قديما وحديثا. أما العلاقة بين الناقد والمبدع الفنان هي علاقة تبادلية، قد يأخذ فيها المبدع برأي الناقد في إنتاجه الفني.                          
وقد يلتقي الناقد بالفنان في تم تبادل الرأي مباشرة، أو قد يتناول الناقد عملا لفنان بالدراسة والتحليل، ويكتب عنه مقالا نقديا ليقرأه الفنان كما يقرأه أي قارئ آخر. وقد تصل العلاقة بينهما إلى حد الخلاف والشد بين الطرفين بسبب تضارب الآراء أو عدم رضى الناقد عن عمل الفنان، كذلك عدم رضى الفنان عن ما يكتبه الناقد.
ومهما كان نوع العلاقة بين الفنان والناقد إلا أن الأعمال والمنتوجات الفنية في حاجة ماسة إلى النقد البناء المؤسس على الموضوعية. فالناقد يعمل على قراءة العمل الفني من خلال فهمه وخبرته الفنية ومعرفته الثقافية. فنجد أن لبعض النقاد قدرة على أن يرفع بكتابته النقدية من مكانة فنان أو قد يؤثر في المتلقين من الجمهور حول أهمية أعمال بعض الفنانين، وبالتالي حول أهمية الفن في المجتمع.
وفي هذا الإطار، تطرح أسباب كثيرة أدت إلى قصور وضعف و تشوية عملية النقد الفني، وذلك بسبب انتشار المفاهيم الخاطئة وعدم الحيادية من بعض النقاد، وكذلك المبالغة أحيانا بالمديح، أو الهجوم على بعض الفنانين لأسباب شخصية، كل هذا أدى إلى صراع على الصعيد الفني للأسف، مما ترك أثره على العملية النقدية بشكل عام، مما يجعلنا أمام ضرورة الوقوف على الإطار المفاهيمي للنقد الفني وتحليل بعض مضامينه الرئيسية، من أجل الفهم الصحيح لدور الناقد الفني ومجال بحثه، وخصوصية عمله. فما المقصود بالنقد الفني؟ و ما هي خصوصيات هذا المفهوم عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الناقد الفني والمبدع والجمهور؟

 حول مفهوم النقد الفني
يؤكد ″عبد العزيز علون"، أن ″النقد الفني ليس علما، تطبق قوانينه على مواد جامدة، وإنما هو فن مرتبط بأطراف متبدلة، ومتحركة، ويحتاج الإلمام بعناصره إلى ثقافة واسعة بصرية وعملية، ومخزون كبير من معرفة العلوم المكملة والاطلاع على الصنائع الداخلة في التقانات المعتمدة، هذا بالإضافة إلى التمكن من علوم اللغات التي يكتب بها الناقد ونقصد بها علوم النحو والصرف والبيان والبديع، ومعرفة حدود الاشتقاقات، وأصولها في اللغات الكلاسيكية، وطرق استخدام المعاجم المقارنة و الإنسكلوبيديات المختصة، والاستناد إلى مكتبة متخصصة تحيط بتاريخ الفن العام وعلم الاجتماع وعلم الآثار والعلوم الفيزيائية والكيميائية ذات الصلة بالتقانات".[1]
من هذا التعريف يتضح أن النقد علم وفن تتداخل فيه أطراف متعددة و دينامية، والمقصود هنا هو الناقد الذي يشتغل على المادة الإبداعية التي هي من صنع المبدع، والتي لها خصوصيات ومكونات ترتبط بنوع هذه المادة وخلفيات وثقافة واتجاهات المبدع نفسه، وكل ذلك موجه إلى جمهور متعدد ومختلف في الحكم على ذلك العمل الفني. والأمر يختلف بين متخصص فاحص محلل ومقارن ومفسر... أن يصبر أغوار ذلك العمل بوجهات نظر مختلفة ومتعددة، وهي مميزات لا يتوفر عليها الإنسان للإنسان العادي. ومن هذا المنطلق على الناقد الفني أن يكون منفتحا على مجموعة من العلوم من أجل تشييد وبناء إطار معرفي يؤهله لامتلاك آليات ممارسة النقد في المجال الفني.
ويرى نبيل راغب أن ″النقد الفني ليس مجرد استعراض أو سرد لمادة إعلامية يسجل من خلالها الناقد الأحداث والنشاطات الفنية، من معارض فنية أو أية أعمال أخرى نحتية أو معمارية أو زخرفية أو تشكيل أو .....الخ، وإنما هو حسب نبيل راغب،″يعتمد أساسا على التحليل المنهجي للأعمال الفنية، ولا يجنح سواء إلى المدح والتقريظ أو الذم والهجاء، بل يضع هذه الأعمال تحت ضوء هادئ وفاحص بعيدا عن الحماس أو التعصب أو التحيز".[2]
وجهة النظر هذه، تنفي عن النقد الفني مسألة تجميع الأعمال الفنية وترتيبها وعرضها من لدن الناقد، وإنما تضفي عليه العلمية باعتباره علما يمتلك قواعد وضوابط على الناقد الفني أن يسلكها من أجل إيصال الحقيقة، سواء بالتأكيد أو النفي،وتوخي الموضوعية في العمل الفني الإبداعي، إما بإزالة الشوائب التي يمكن أن تسيء للعمل، وبذلك نفي حقيقة كانت ثابتة لذا المبدع، أو تحفيز المبدع الأصيل من عمل فني رصين. وبهذا المعنى يتجاوز النقد في المجالات الفنية القدح أو المدح الباهت، والتعصب لبعض الأعمال بدوافع شخصية لا تمت بصلة للعلمية في ذاتها.
 
ويضيف ″نبيل راغب" حول نفس الموضوع، تتركز مهمة الناقد الفني في ″إلقاء الأضواء الموضوعية على نواحي الخصوبة الفكرية والفنية في العمل الفني، وما يحويه من دلالات وتلميحات وتأويلات. أي أن كل ما يريد أن يفعله هو أن يمنح العمل الفني فرصة أخرى لكي يعرض فيها قوته السحرية المتمثلة في روح الفن ذاته، وبذلك يساعد القارئ على الاقتراب بقدر الإمكان من منابع الجمال فيه".[3]
وهو بذلك،يؤكد على أن النقد الفني يسعى إلى إظهار جوانب خفية في العمل الفني، لا يمكن للقارئ العادي أن يفهمها أو يعرفها، لأن هذا القارئ يكتفي بالنظرة السطحية والخارجية، وبذلك يعمل الناقد على إثارة الإشكالات التي يحاول المنتوج إظهارها وذلك من خلال التحليل المحتوى والتفسير الأبعاد والدلالات ووضع العمل في موضع موازنة ومقارنة، من أجل توضيح الرؤية وتقريب المعنى والدلالة، لكي يكون القارئ قادرا على استخلاص المعاني الظاهرة والخفية.  فالناقد الفني، في نظر نبيل راغب، ″لا ينظر إلى التركيب الكيميائي للماء، وإنما إلى بريقه ولمعانه وصدى هذه الأضواء والظلال داخل المتلقي. وهو لا يهتم بمسألة البعد الشمسي، و إنما الذي يعنيه هو الشمس كمركز متعدد الأصداء في حياة كل فرد منا"[4]. أي أن ما يهمه هو تأثير هذا العمل الإبداعي في أذواق المتلقين، و أن يكون هذا التأثير صحيحا منطلق من عمل إبداعي مبني على قواعد و أصول فنية، تحكم طبيعة العمل وتأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المتلقين.
أما ″كلود عبيد" يرى أن ″تحليل عمل الفني يكون بتحري الحقائق المطلقة [...]، فمشاعر الفنان لها لون خاص لأنها تتعلق بمعاني الأشكال التي ينظم بها عمله الفني، والناتجة عن العلاقات داخل العمل الكلي، الصفات التي يكتسبها الشكل الواحد داخل العمل هي في وضعه بالنسبة للأشكال الأخرى حيث يؤثر فيها وتؤثر فيه"[5]. فهو يرى أن الناقد في تحليله للعمل الإبداعي يجب أن يعتمد على منهج مبني على قواعد وتقنيات، يأخذ بعين الاعتبار المنتوج الفني وفق رؤية الفنان المبدع والأشكال التي يعتمدها في صنع عمله، إذ أن العمل ككل هو بنية متكاملة ترتبط فيها الأجزاء في علاقاتها بالعمل ككل.
أما ″جيروم ستولنيتز"، في حديثه عن النقد الفني، بقول :″ليس النقد وإنما ثمار النقد- أي المزيد من المعرفة، والقدرة الأدق على التمييز، وعلى التلقي بمزيد من الحساسية- هي التي تندمج في التجربة التي هي جمالية بحق. وبعد أن يؤدي النقد دوره، فإن خير ما يفعله هو أن يذوي ويموت"[6]. بالنسبة له، المهم هو النتائج التي يولدها النقد، وليس النقد في ذاته، أي ما يمكن أن يولده هذا النقد من أفكار ومعارف جديدة، مما يعطي للعمل الفني جماليته، لأن المطلوب هو إبراز الجوانب المختلفة في العمل الفني بما يثير حساسية المتلقي تجاه العمل الإبداعي، وهنا تظهر مهمة النقد الفني التي بعد أن ينهيها يموت وينتهي هذا النقد.
 
النقد الفني يعني تقويم الأعمال الفنية ليس من قبل الجميع، والأهم ليس من قبل الناس العاديين، وإنما من قبل المتخصصين، لأنه في النقد نتحدث عن النظرية والمنهجية والمرجعية، فالنقد الفني عبارة عن شرح وتحليل وتفسير للأعمال الفنية وتصنيفها إلى جيدة ورديئة، عبر محاولة فك مجموعة من الرموز والشفرات التي بني عليها العمل الفني. النقد الفني، إذن، امتلاك معرفي حول موضوع الفن للتمكن من إصدار حكم على إنتاج أو إنتاجات فنية، لذلك على الناقد الفني أن يكون صاحب معرفة موسعة مستقاة من مجموعة من العلوم المختلفة والمتنوعة لكي تكون له معرفة تكاملية ومتكاملة، من الأدب، وعلم النفس، علم الاجتماع، و الأنثروبولوجيا، و السيميائيات، و التشكيل، وكل العلوم المساعدة علة توليد أفكار ومفاهيم ومعارف جديدة من خلال التعامل مع العمل الفني. فالنقد بشكل عام عمل مركب يمكن من التحليل والتفسير والمقارنة والتشابه والموازنة....،لأنه حوار بين خطاب الكاتب وخطاب الناقد.

بيبليوغرافيا
        عبد العزيز علون،أعلام النقد الفني في التاريخ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة-دمشق، 2011م.
        نبيل راغب، النقد الفني، دار مصر للطباعة، الإسكندرية، من دون تاريخ.
        كلود عبيد، الفن التشكيلي نقد الإبداع وإبداع النقد، دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2005.



[1]عبد العزيز علون،أعلام النقد الفني في التاريخ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة-دمشق، 2011م، ص 6.
[2] نبيل راغب، النقد الفني، دار مصر للطباعة، الإسكندرية، من دون تاريخ، ص 5.
[3]نبيل راغب، مرجع سابق، ص 10. بتصرف
[4]نبيل راغب، م س، ص 12.
[5]كلود عبيد، الفن التشكيلي نقد الإبداع وإبداع النقد، دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2005،  ص 140.
[6]جير و مستول نيتز، مرجع سابق، ص 563.
................................................
 موقع الأستاذ الصديق الصادقي العماري

تعليقات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

مجلس تدبير المؤسسة آلية للتأطير والتدبير التربوي والإداري

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات2

مشاركات

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

الجزء الأول: قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3