العلاقات الأسرية في زمن جائحة كورونا


العلاقات الأسرية في زمن جائحة كورونا
الصديق الصادقي العماري
 

 

 

تعتبر الأسرة مهد التنشئة، وهي منطلق التطبيع الاجتماعي، وتتضح أهميتها وخطرها في تشكيل شخصية الطفل، فكلما كان الكائن صغيرا تزداد القابلية للتشكيل، وبهذا المعنى للأسرة الأثر الكبير في تشكيل شخصية الفرد. 

إنها البيئة الاجتماعية الأولى التي يبدأ فيها الفرد بتشكيل ذاته والتعرف على نفسه عن طريق عملية الأخذ والعطاء والتعامل بينه وبين الآخرين، وفي هذه البيئة يتلقى أول إحساس بما يجب أو لا يجب أن يقوم به .وهي أول مؤسسة صغيرة تعمل عملها في التأثير، وهي الممثلة الأولى للثقافة، والعامل الأول في صبغ سلوك الطفل بصبغة اجتماعية، فتشرف على توجيه سلوكه وتكوين شخصيته. وفي أبسط معانيها، تعتبر الأسرة مجموعة من الأفراد المتكافلين الذين يقيمون في بيئتهم الخاصة وتربطهم علاقات بيولوجية ونفسية واجتماعية واقتصادية وشرعية قانونية.


لذلك كان من الضروري على الآباء الاهتمام أكثر فأكثر بأبنائهم، وتخصيصهم بالرعاية الكاملة والوقت الكافي لذلك، غير أنه في زمن القرن الواحد والعشرين، وبفعل التحولات التي عرفها العالم خاصة في ظل تكنولوجيا الاعلام والتواصل، وبروز الحاجة أكثر فأكثر للتركيز على العمل سواء من طرف المرأة أو الرجل، أصبح أعضاء الأسرة يعيشون في سيرورة مغلقة يحكمها الجانب التقني والآلي، وفق برنامج واضح من الانشغالات، ولد لذى الجميع غربة مفرطة بالرغم من أنهم جميعا يعيشون في بيت واحد.

ومع بروز ظاهرة كورونا بشكل مفاجئ، واضطر الجميع الجلوس في المنزل، وبالتالي أصبح من المفروض الدخول في علاقات مباشرة أكثر من ذي قبل، سواء بين الزوج والزوجة، و بين الوالدين والأبناء، و بين الأبناء أنفسهم، وهي حالة أعتبرها لحظات مواجهة لا يمكن أن تخلوا من انكشاف حقيقة العلاقات العادية. إنها حالة تعيد ترتيب الحسابات بين الزوجين وفي علاقاتهم مع أبناءهم، خلالها تنكشف الطباع والسلوكيات الحقيقة التي كانت مضمرة بفعل الانشغال اليومي.


بفعل جائحة كرونا تم رد الاعتبار للعلاقات الأسرية، وبناء وإعادة بناء جسور التواصل والرحم بين جميع الأفراد، وفي نفس الوقت انبثاق حالة الاكتشاف وهدم الوجاهات المبتدعة التي كانت تسيج كل عضو أما الآخر، فالكثير من الأزواج اكتشفوا حقيقة علاقتهم، ربما تكون جائحة كرونا فرصة للنقاش والحوار والفهم المتبادل. وكم من أب اكتشف سلوكات لم يكن يعرفها عن أبنائه، سلبية أو إيجابة، وكم من أبناء انفتحوا أكثر عن أبيهم وأمهم، وأدركوا فعلا حقيقة العلاقات داخل الأسرة. وفي المقابل كم من أزواج ازدادت علاقتهما سوء بفعل الصدام الدائم نتيجة الاضطرابات النفسية نتيجة الحجز الاضطراري في الحجر الصحي غير المألوف، خاصة إذا كان الأب يعتاد على تناول المخدرات والخمور. والأمر نفسه بالنسبة للأبناء الذين يتعاطون للممنوعات.


لكن، ما تجدر الإشارة إليه، أن جائحة كونا أعادتنا للأسرة وحميميتها، أعادتنا إلى ضرورة إعادة ترتيب الأوراق بخصوص العلاقات الأسرية، ودعتنا إلى التفكر والتدبر في طبيعة هذه العلاقات في الماضي من أجل استشراف سبل جديدة للتواصل والتفاعل وتحقيق مبدأ الاحترام المتبادل. لذلك يحق لنا التساؤل حول مفهوم الجائحة سوسيولوجيا؟ وما الوضعية التي عاشها ويعيشها أفراد الأسرة داخل المنزل في ظل الحجر الصحي؟ وما الجديد الذي تولد عنها سلبا أو إيجابا؟ وما مستقبل هذه العلاقات بعد كورونا؟ هل هو الأسرة المستقرة المتضامنة؟ أم حالة انفراج وتشتت نتيجة الضغط والقهر والتعسف خاصة أمام قلة الموارد المادية؟ وما هي الإضافات التي يمكن أن تقدمها السوسيولوجيا في هذا الجانب، باعتبار الموضوع يحمل نوعا من الحساسية والدعوة للتحديد والتأطير السوسيولوجي بالأساس؟

 

المشاركة كاملة أسفله


...................................

تعليقات

  1. تعتبر الأسرة مجموعة من الأفراد المتكافلين الذين يقيمون في بيئتهم الخاصة وتربطهم علاقات بيولوجية ونفسية واجتماعية واقتصادية وشرعية قانونية.

    ردحذف
  2. إن عملية التنشئة الاجتماعية من أهم العمليات تأثيرا على الأبناء في مختلف مراحلهم العمرية، لما لها من دور أساسي في تشكيل شخصياتهم وتكاملها، وهي تعد إحدى عمليات التعلم التي عن طريقها يكتسب الأبناء العادات والتقاليد والاتجاهات والقيم السائدة في بيئتهم الاجتماعية التي يعيشون فيها، وتتم من خلال وسائط متعددة، وتعد الأسرة أهم هذه الوسائط، فالأبناء يتلقون عنها مختلف المهارات والمعارف الأولية، كما أنها تعد بمثابة الرقيب على وسائط التنشئة الأخرى، ويبرز دورها، أي الأسرة، في توجيه وإرشاد الأبناء من خلال عدة أساليب تتبعها في تنشئتهم، وهذه الأساليب قد تكون صحيحة وسوية أو غير ذلك مما ينعكس على شخصية الأبناء وسلوكاتهم سواء بالإيجاب أو السلب.

    ردحذف
  3. إذا كان الدور الاجتماعي لكل من المدرسة والأسرة يتجلى في التنشئة الاجتماعية للأفراد عن طريق التربية فإن علاقتهما يجب أن تنطلق من هذا المنظور الأساسي. وعلاقة الأسرة بالمدرسة لا يجب أن تبقى علاقة سطحية تتجلى أساسا في أن الأسرة هي التي تزود المدرسة بالمادة الأولية أي الأطفال وبالتالي فعملية الإنتاج كلها على عاتق المدرسة، بل يجب أن تكون علاقتهما شاملة تنبني على أنهما شريكان في عملية الإنتاج وفي التوزيع وفي الرأسمال، وبالتالي شريكان في الربح وفي الخسارة في حالة حدوثها.
    بالرغم من التغييرات التي تحدث في الأسرة فهي مازالت إحدى المؤسسات ذات الأثر البعيد في المجتمع، ففي المنزل يتعلم الطفل اللغة ويكتسب بعض الاجتهادات ويكون رأيه عن ما هو صحيح أو خاطئ. والنواة الأولى للطفل هي النواة التكوينية لحياته وأثرها يلازم الطفل حتى يدخل إلى المدرسة، لذلك فتربية المدرسة هي امتداد لتربية الطفل في المنزل. وقد أوضحت عدة دراسات، أجريت لمعرفة أثر المنزل على نمو سلوك الطفل، أن كثيرا من مظاهر سلوك الفرد ما هو إلا انعكاس لحياته المنزلية، كنظافة المنزل مثلا تنعكس على مظهره وملبسه وكل تصرفاته.
    وإذا كان تأثير المنزل على تنشئة الفرد يظهر عليه، فإن على المدرسة واجب معرفة البيئة المنزلية للطفل حتى يمكنها إدراك العوامل المختلفة المتداخلة في شخصيته. كما أنها لا يمكن أن تستثمر في عملها التربوي ما لم يتعاون الآباء معها عن طريق إمدادها بالمعلومات المختلفة عن مميزات الطفل وحاجاته ...الخ. ومن هنا يمكن القول إن المدرسة والأسرة كمؤسستين للتنشئة الاجتماعية، توجدان في وضعية المنافسة مع بقية المؤسسات التي يقبل عليها الأطفال مثل التلفاز وشبكة الانترنيت والشارع، وبالتالي وجب عليهما تضافر الجهود والتنسيق بشكل معقلن لمواجهة تلك المنافسة الشرسة.
    إن علاقة المدرسة بالأسرة والمجتمع يجب أن ترتكز على مبادئ التواصل والتفاعل المتبادل والشراكة الفعالة، مع تسخير كل الإمكانيات والوسائل والسبل الكفيلة لتفعيل هذه العلاقة على مستوى التطبيق والممارسة. وتبقى المدرسة هي التي يجب عليها أن تخطو الخطوة الأولى نحو هذا الانفتاح، وعليها أن تعمل جاهدة على جعل الأسرة تلتحق بها وتشاركها هموم عملها كعنصرين مهمين من عناصر المجتمع، كما يجب عليها أن تنفتح أيضا على باقي مكونات المحيط وذلك بتفعيل جميع الإجراءات التشريعية والقانونية التي تمكنها من تحقيق هذا الانفتاح، كما جاء في الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مجال الشراكة والتمويل٬ وكذلك مجلس التدبير الذي يشارك فيه ممثل مجالس الجماعات ثم رئيس جمعية أباء وأولياء التلاميذ داخل المؤسسة.
    من أهم الأدوار الأساسية للمؤسسة التعليمية الحداثية هي التربية والتأديب أولا٬ ثم بعد ذلك التعليم الحقيقي والمعرفة المنتجة٬ فهل تؤدي المدرسة هذه الرسالة المعقدة؛ أم تخلت عنها مكرهة لمؤسسات أخرى تعنى بهذا الجانب الحياتي؟ وحسب اعتقادي، فإن التربية والتأديب أولى من التعليم٬ فلا معنى ولا قيمة للعالم غير المؤدب وغير المخلق٬ والذي لم يعلمه علمه التواضع ورباطة الجأش٬ فليعلم علم اليقين أنه في حقيقة الأمر أسفل سافلين٬ كيف ما كانت مراقي علمه وشواهده ودبلوماته.
    إن الأسرة الودود هي مصدر التأديب الحقيقي والصحيح للطفل والذي يبتدئ من سن مبكرة لتكبر معه العواطف والإحساسات حتى يلج مقعده في المدرسة٬ والتي عليها أن تكمل اللبنة الأولى التي وضعتها الأسرة٬ حتى تكون هناك استمرارية والتي ستتحكم دون شك بشكل كبير في مسار حياته الطويلة والمعقدة٬ بما يضمن له الاندماج داخل المجتمع.
    فإن الفهم الصحيح لوضعية التلميذ، هو وحده الذي يمكن أن يساعد المربين لتوجيهه وتصحيح مسار تعلمه وتدليل الصعوبات التي تواجه تعلمه وتجعله متعثرا. كما أن العلاقة بين الأسرة والمدرسة يجب أن تتسم بالتكامل والانسجام، لا التعارض والتناقض والتنافر، لأن أي تعارض بين القيم والمضامين التربوية والثقافية والتعليمية التي ترسخها المدرسة، من خلال برامجها ومقرراتها، وبين ما يأتي الطفل محملا به من وسطه الأسري سيؤدي لا محالة إلى تصدع وتمزق في شخصيته وبنية تفكيره، وبالتالي يؤثر على مستوى تحصيله ومردوديته المدرسية. غير أن مشاهدة وملاحظة المتعلم لمجموعة من السلوكات السلبية ومظاهر الانحراف الأخلاقي داخل أسرته وفي وسطه الاجتماعي وعبر ما تبثه بعض البرامج الإعلامية غير التربوية، ينسف كل ما تحاول المدرسة ترسيخه من قيم تربوية وثقافية وحقوقية.
    من: كتاب التربية والتنمية وتحديات المستقبل مقاربة سوسيولوجية، منشورات أفرقيا السرق.

    ردحذف

إرسال تعليق

يمكنكم كتابة تعليق كقيمة تفاعلية مع الموضوع: إضافات، أو تساؤلات، أو انتقادات علمية، أو توجيهات، أو ملاحظات....

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

مجلس تدبير المؤسسة آلية للتأطير والتدبير التربوي والإداري

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات2

مشاركات

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

الجزء الأول: قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3