حول الثقافة والمثاقفة والتناسج الثقافي -مقاربة مفهومية-

 حول الثقافة والمثاقفة والتناسج الثقافي

-مقاربة مفهومية-

الصديق الصادقي العماري

علم الاجتماع

تقديم

تعد الثقافة من المفاهيم الأكثر جدلا، باعتبارها مركبة ومشعبة وتتعلق بدينامية دائمة، وذلك راجع إلى الإنسان نفسه، ونوع العلاقات التي تربطه بالآخر المشابه و المختلف، وكذلك إلى علاقة هذا الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها، وحاجياته الكثيفة إلى التطور والتغير المستمر. فلكل ثقافة هوية، ولكل هوية جوهر تعبر عنه خصوصيات متفـردة، وتنبثـق منه قيم سامية ومثل عليا، هي عنوان الأصالة والعراقة اللتين هما القواعد الراسخة للثقافة، والقواسم المشركة بـين الثقافات الإنسانية جميعا، مها تكن سماتها وقسماتها وطوابعها، ومها تتعدد مصادرها ومنابعها وروافدها.

 فلكل أمة ثقافة تعبر عن كينونتها، وتعكس طبيعتها، وتسجل عطاءاتها المتراكمة عبر التاريخ الطويل، فتجعل منها أمة ذات خصوصيات تميزها عن الأمم الأخرى. وكذلك هي الثقافة في تميزها عن الثقافات السائدة، سواء في الزمن الواحد، أو في أزمنة متطاولة، وإن كانت تأخذ عنها، وتقتبس منها، وتتلاقح معها، فتتقارب، وتتحاور، وتتفاعل بطرق متباينة، فتكتسب قوة في المناعة، وقدرة على التناغم مع البيئة، وعلى التكيف مع المحيط الإنساني العام، وتلك هي طبيعة الثقافة لدى أي أمة من الأمم، وفي كل عصر من العصور.

والتنوع الثقافي ظاهرة اجتماعية تفرض نفسها بشكل جلي، على اعتبار اختلاف العادات والثقافات والأعراف والقوانين المنظمة لكل جماعة اجتماعية معينة، كما أن التداخل والتماس بين عناصر وأجزاء الثقافات هو ميزت العصر الحالي، نتيجة عمليات التواصل الدائمة بين أفراد الشعوب والأمم، وهو ما يساعد على بناء الخبرة والتجربة الإنسانية. غير أن الملفت للنظر أن هذا التداخل يشوبه نوع من التقزيم والإقصاء والاستغلال، حيث تدعي ثقافة الهيمنة والاحتواء لثقافة أخرى، وتتم هذه العملية من قبل ثقافة مهيمنة اقتصاديا، وتحاول نعت ثقافة الشعوب المستضعفة بأنها جامدة وغير قابلة للتطور، بالرغم من رفع شعارات الاحترام والتواصل الثقافي المثمر في إطار الكونية العالمية. 

 فقد مر تشكل الثقافة عبر محطات تاريخية، ولكل مرحلة خصوصيات معينة حسب المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والعرقية وغيرها، وفي كل مرحلة كانت تتلون بتلوينات العصر التي تحتكم إليها. فقد اهتمت الدراسات الأنثروبولوجية بالأشكال الثقافية البدائية للشعوب والأمم، ولها السبق دراسة الثقافة وتحليل أصولها بالرجوع إلى الموضوعات البدائية التقليدية، والعلاقات التي تربط بين الناس في إطار البيئة المحيطة بهم، كما اهتمت الدراسات الاجتماعية بعناصر وأشكال الثقافة ودورها في تشكل الجماعات. مما يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة نراها ضرورية مثل: ما مفهوم الثقافة؟ وما أهم الاتجاهات النظرية التي حاولت دراستها وتحليلها؟ وما علاقة الثقافة بالهوية؟ والمقصود بالمثاقفة؟ وما هي آليات التحول من المثافقة إلى التناسج الثقافي؟

1.مفهوم الثقافة

تعد الثقافة من المفاهيم المتشعبة والشائكة، لأنها تحمل دلالات ومعاني كثيرة، وتأبى أن تنحصر في تخصص دون آخر، خاصة في العلوم الإنسانية، حيث أصبحت السياقات التي يظهر فيها هذا المفهوم تتضارب من وقت لآخر، حسب الظروف والأزمنة والتخصصات والمجتمعات والشعوب وحتى من داخل نفس الشعب أو نفس المجتمع، ومن هذا المنطلق، تشهد مسألة الثقافة، أو بالأحرى مسألة الثقافات، تجددا يجعل منها مسألة راهنة، سواء على المستوى الفكري، أو على المستوى السياسي. ففي فرنسا، على الأقل، لم يكن الحديث في الثقافة أوسع مما عليه اليوم (بخصوص وسائل الإعلام، أو الشباب أو المهاجرين). وهذا الاستخدام للكلمة، مهما كانت حدود مراقبته، هو في حد ذاته، معطى إثنولوجي"[2].

وبهذا المعنى، تعد الثقافة معيارا من معايير التمييز والاختلاف بين الشعوب والجماعات، إذ أن لكل مجتمع طابع ثقافي خاص، و أسلوب عيش معين، بل ومنظومة قيم معينة. لهذا، ساهمت الثقافة بشكل كبير في تحول الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، يتفاعل داخل الجماعة ويعبر عن حاجاته، وقناعاته، وميولاته، وعن طابعه الخاص الذي يميزه عن غيره المختلف عنه.

مفهوم الثقافة يعد من أعقد المفاهيم لأنه استعمل بطرق وأشكال مختلفة بجميع اللغات، إذ أن استعماله يختلف من لغة إلى أخرى، وقد عرفت الثقافة باعتبارها طريقة كاملة للحياة لدى مجتمع معين، حيث يتم تعلمها وتقاسمها بين أفراد المجتمع. غير أن مفهوم الثقافة من المفاهيم المعقدة. فمثلا (ريموند وليم) أحد أهم المنظرين في الثقافة في كتابه (keyword) يرى أن الثقافة تعد واحدة من أكثر المفردات تعقيدا في اللغة الإنجليزية، فكلمة ثقافة استعملت بطرق مختلفة سواء من جانب علماء الاجتماع أو في الأحاديث اليومية[.....]. فالأشياء التي يصنعها الإنسان، ويمارسها هي معطيات ثقافية بينما الأشياء التي توجد أو تحدث بدون تدخل الإنسان تعتبر جزء من عالم الطبيعة"[3]

لذلك، تعد الثقافة من صنع الإنسان، فهو الذي يخلق معطياتها ومكوناتها التعبيرية استنادنا إلى الإطار العام المحدد لمجتمعه ووسطه ومعيشه اليومي، من عادات وتقاليد وطقوس ومعتقدات...الخ. إنها متجددة بتجدد إنتاجات وإبداعات الأفراد، وتنعكس على تطور واستمرارية المجتمع، كما أنها هي الموجه لسلوك الأفراد وتدفعهم إلى الاحتكام إلى معاييرها وضوابطها بطريقة قسرية تعسفية، ومن يخرج عن محددتها، في نفس المجتمع، يعد مخلا بالنظام العام.

أما بخصوص الحقبة التاريخية التي نشأ فيها مصطلح الثقافة والمعنى الأول لها، يرى «دنيس كوش» أن كلمة ثقافة ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر متجذرة من Cultura اللاتينية التي تعني العناية الموكولة للحقل وللماشية، وذلك للإشارة إلى قسمة الأرض المحروثة"[4]. وقد عرفت الكلمة بعض التغيرات الطفيفة لكنها لم تخرج عن المعنى الفلاحي، مع أنها ارتبطت بمهارات وقدرات الفلاح وطبيعة وحالة الأرض المحروثة، إذ أنه في بداية القرن السادس عشر، كفت الكلمة عن الدلالة على حالة (حالة الشيء المحروث) لتدل على فعل هو فلاحة الأرض. ولم يتكون المعنى المجازي إلا في منتصف القرن السادس عشر، إذ بات ممكنا أن تشير كلمة «ثقافة»، حينذاك، إلى تطوير كفاءة، أي الاشتغال بإنمائها. ولكن ذلك المعنى المجازي ظل غير دارج بكثرة حتى منتهى القرن السابع عشر، ولم يحز على اعتراف أكاديمي، إذ لم يدرج ضمن مواد أغلب قواميس تلك الفترة"[5].

فقد كان الاستعمال الأول لكلمة ثقافة مرتبطا بالحرث والأعمال الفلاحية، خاصة بتطوير قدراته وإمكاناته للسيطرة على الأعمال الفلاحية، وهذا راجع للانشغال اليومي للإنسان، إذ كانت علاقته بالأرض، مصدر عيشه، وطيدة، فتطويره لأعماله وممارساته اليومية الفلاحية هو ما كان يعكس تطور حياته.

أما عن تطور دلالات كلمة ثقافة، التي تغيرت بتغير الأفكار والقناعات وحاجات الإنسان وطريقة عيشه ومستوى نضجه، يرى «دنيس كوش» أن: التطور الدلالي الحاسم الخاص بالكلمة والذي سمح، لاحقا، بابتداع المفهوم الحديث داخل اللسان الفرنسي، في قرن الأنوار، قبل أن ينتشر بواسطة الافتراض اللساني داخل اللسانين المجاورين (الإنجليزي والألماني)[6]. فقد كان القرن الثامن عشر، وما عرفه من فتح عظيم على الإنسانية في جميع المجالات، هو القرن الذي نحت فيه المفهوم الحديث للثقافة، إذ ارتبط تطور هذا المفهوم بتطور أوضاع الإنسان وحاجاته في جميع المجالات، وأصبح الإنسان يبدع حسب رؤيته ووفق ما يراه مناسبا له وللمجتمع الذي يعيش فيه.

إن كلمة ثقافة منذ نشأتها عرفت معاني ودلالات معينة اختلفت باختلاف الشعوب والمجتمعات، غير أنها لم تستقر على دلالة أكاديمية معينة من داخل البحث العلمي، ويعد القرن الثامن عشر هو الذي بدأت فيه كلمة «ثقافة» تفرض نفسها في معناها المجازي. بهذا المعنى تم إدراجها في قاموس الأكاديمية الفرنسية(Dictionnaire de l’Académie Français)(نشرة 1718)، وهي، في أغلب الأحيان، متبوعة بمضاف يدل على موضوع الفعل. هكذا كان يقال «ثقافة الفنون» و«ثقافة الأدب» و«ثقافة العلوم» كما لو كان ضروريا أن يحدد الشيء المعتنى به تثقيفا"[7]. وبهذا، تحررت كلمة الثقافة من معناها الضيق المرتبط بالفلاحة والحرث وتطوير كفاءات الفلاحين إلى المعنى العلمي الأكاديمي. مع عصر الأنوار ظهرت كلمة ثقافة في التربية والأدب والعلوم وغيرها من التخصصات، وبالرغم من أنها استعملت مفردة إلا أنها عرفت تطورا كبيرا وتشعبا في المعنى والدلالة.


في الحديث اليومي عن الثقافة غالبا ما يتم التركيز على مستويات التفكير والتراكم المعرفي لدى الشخص، كذلك الجوانب الإبداعية مثل الفنون والأدب والموسيقى والرسم والكتابة والرقص...الخ، غير أنها تعني بالإضافة إلى ذلك أبعاد أخرى، وبهذا، الثقافة تعني أسلوب الحياة الذي ينتجه أعضاء مجتمع ما أو جماعات ما داخل المجتمع. وهي تشمل على هذا الأساس أسلوب ارتداء الملابس، وتقاليد الزواج، وأنماط الحياة العائلية،...، والاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى وسائل الترفيه والترويح عن النفس"[8]. يستشف من هذا القول، أن الثقافات تتعدد بتعدد طريقة العيش وأسلوب الحياة، والأنماط والأشكال التعبيرية التي يعبر بها كل مجتمع عن نفسه. والثقافة هي مميزة لجماعة اجتماعية ككل، وليست تعبيرا عن ميولات ورغبات الأفراد، إذ أنها هي التي تحدد نوع هويتهم وانتمائهم، كما أنها تعتبر الموجه الرئيسي لعلاقاتهم وطريقة عيشهم.

إن تعدد معاني ودلالات الثقافة راجع إلى تعدد وجهات النظر وزاوية الدراسة حسب العلوم والتخصصات، باعتبارها ظاهرة تدرس وفق قواعد ومناهج معينة، لذلك مثلا، تعني الثقافة في نظر علماء الاجتماع جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة. ويشترك أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة تلك التي تتيح لهم مجالات التعاون والتواصل... وتتألف ثقافة المجتمع من جوانب مضمرة مثل: المعتقدات، والآراء، والقيم التي تشكل المضمون الجوهري للثقافة، ومن جوانب عيانية ملموسة مثل: الأشياء، والرموز، أو التقانة التي تجسد هذا المضمون"[9].

 وبهذا المعنى، تعد الثقافة ذلك الكل الذي يشمل كل مناحي وجوانب حياة الإنسان والتي ساهم في إنتاجها وإبداعها وفقا لحاجاته وضرورات عيشه، كما تشمل جوانب أخرى ضمنية مرتبطة بالجانب القيمي المؤطر لكل سلوكات الإنسان وطريقة تفكيره وتفاعله مع الآخر.

بناء على هذه المعطيات، يمكن مقاربة الثقافة بالاعتماد على مداخل مختلفة ومتنوعة: أنثروبولوجية، سوسيولوجية، فكرية، ونقدية...إلخ. ومن أمثلة ذلك، الباحث «ماثيو آرنولد» الشاعر والناقد والمدرس، الذي يرى أن الثقافة هي دراسة الكمال والتي من شأنها أن تقود إلى كمال متناسق بتطويرها لكل جوانب إنسانيتنا ثم إلى كمال عام بتطويرها لكل أجزاء المجتمع. والناس يصبحون مثقفين باتباعهم طريق الكمال"[10]. حسب آرنولد، الثقافة تتحدد من خلال المعرفة، معرفة كل ما يتعلق بجوانب شخصية الإنسان وخصوصيات الجماعة، معرفة أفضل ما يساهم في بناء الإنسان وكل ما يحيط به من ممارسات صحيحة لها وقع إيجابي تنويري على حياته.

فكلما سعى الإنسان إلى الانفتاح على تخصصات واتجاهات عدة عن طريق القراءة والبحث المستمر، من خلال دراسة أرقى الموضوعات في الشعر والأدب مثلا، كلما كانت له القدرة على تطوير وتنمية إنسانيته نحو الكمال. غير أن الإنسان أصبح يميل إلى الكمال المادي، و لا يرى إلا ذاته، ولا يسمع إلى صوته في إغفال تام عن القيم والمبادئ التي تؤصل لواقعه وهويته بسبب الثورة التكنولوجية.

إن الثقافة تنبني على معايير وقواعد متفق عليها من قبل أعضاء الجماعة الاجتماعية، وهي التي تحدد شروط وضوابط النظام العام داخل نفس الجماعة، لذلك فإن جميع التفاعلات والعلاقات بين هذه الأفراد لا يمكن أن تخرج عن هذه الضوابط، وإلا يعتبر صاحبها خارجا عن القانون وخارقا لقواعد وأصول الثقافة الأصلية. بعض المجتمعات تشدد على قيمة المعتقدات الدينية التقليدية، بينما تميل مجتمعات أخرى إلى إعطاء قيمة للتقدم والعلوم.

في الوقت الذي يركز فيه البعض على الراحة المادية وتحقيق النجاحات، يرى البعض الأخر راحته في الهدوء والبساطة. غير أنه في هذا العصر الذي يعرف تغيرات كثيرة بفعل التقنية والتكنولوجيا وانتقال الأفراد بشكل مستمر والأفكار والسلع والمعلومات بشكل مفرط وسريع، تعرف الثقافة الخاصة بكل مجتمع  تهديدا كبيرا بفعل ما أفرزته العولمة وتدويل العادات والتقاليد، إذ برزت ثقافات غازية ومسيطرة بوسائل وتقنيات مستهلكة ومتداولة.

الثقافة تتغير بمرور الزمان وتغير المكان وحتى الأشخاص وحاجاتهم، فالأشكال الثقافية التعبيرية والمعتقدات التي كانت تؤمن بها جماعة اجتماعية معينة في حقبة زمنية معينة سرعان ما تتغير، وقد تطعم بأشكال ثقافية أخرى بسبب تغير الإقامة، وحسب النضج الفكري لأفراد الجماعة بفعل الدراسة، أو الهجرة إلى الخارج، والزواج الخارجي، أو انفتاح الأفراد على ثقافات أخرى، أو بفعل ربط علاقات خارجية بين الأفراد والجماعات، وغيرها من الأسباب.

الثقافة إذن، هي ذلك الجزء من البيئة الذي صنعه الإنسان، ويمكن إجمالها في كل ما هو مكتسب، بمعنى غير طبيعي(فطري). الثقافة أسلوب وطريقة العيش في الحياة التي تتمكن جماعة بشرية من تأسيسها لتكون مقبولة من جميع أفراد الجماعة، وملائمة لهم كمجموع، وهي طريقة تتضمن أساليب الإدارة وآلياتها، ونمط التفكير، وآداب السلوك والمعتقدات، أو منظومة الأخلاق والقيم التي تحكم الجماعة، وكذلك اللغة، ونمط العيش بما يتضمنه من مسكن ومأكل ومشرب ومن علاقات وأنظمة سلوك تؤسس التواصل بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة ككل، وبين الفرد والطبيعة، وبينه وبين الوجود.


ü المفهوم العالمي للثقافة

في مفهومها الكوني، تتداخل الثقافة مع مفهوم الحضارة، إذ أكد عالم الأنثروبولوجيا البريطاني «إدورد بارنات تايلور» في أول تعريف عالمي للثقافة: إن «الثقافة» أو «الحضارة» موضوعة في معناها الإثنولوجي الأكثر اتساعا، هي هذا الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع"[11]. يبرز هذا التعريف العناصر اللامادية لحياة الناس في جماعة، كالأخلاق والقانون والعرف التي تنشأ نتيجة للتفاعل الاجتمـاعـي، وتـأخـذ طابعا إلزاميا، إلى جانب العنصر المادي للثقافة، علاوة على العلاقات بين الناس، وبين العناصر المكونة لهذه الثقافة.

يرى تايلور أن الثقافة تشمل جميع مناحي ومظاهر الحياة، المادية من أشياء وأحداث يمكن عدها أو قياسها مثل اللغة والفنون...، واللامادية المعنوية كالطقوس والعادات...إلخ. هي ترتبط بالجوانب الاجتماعية للإنسان والتي يبدع فيها، ومن خلالها يكتسب سلوكيات وقيم معينة مؤطرة لعلاقاته بين الأفراد والجماعات، وبهذا المعنى يرى أنها نظرة شمولية للحياة، وهي بذلك تكتسب بعدا اجتماعيا. ويعد ظهور مفهوم الثقافة والحضارة من السمات الحقيقية على تطور المجتمعات، لأن الثقافة تتميز بالتنوع والاختلاف، أما الحضارة تعد شاملة وتظهر انعكاساتها على الشعوب والمجتمعات من حيث تجديد أدوارها ووظائفها وفاعليتها مقارنة مع المجتمعات الأخرى، إذ أن لكل شعب حضارة خاصة تنبني على تمظهرات ثقافته المبنية على تقاليده وطقوسه وقواعده التي يعتبرها ثوابت وأصول ثابتة.

حسب هذا الاتجاه، الثقافة تحتوي على الأفكار والاتجاهات العامة المقبولة والمتوقعة من قبل جماعة اجتماعية معينة، التي يتعلمها الفرد من خلال علاقته بالواقع الاجتماعي. وبهذا، تلعب الثقافة أدوارا رئيسية في تأهيل الفرد لكي يكون قادرا على الاندماج في الحياة الاجتماعية، إذ تشكل سيرورة تساعد الأجيال على الاستفادة من إرث الماضي والعمل على المحافظة عليه للأجيال اللاحقة.

من خلال تعريف تايلور للثقافة وربطها بالحضارة يظهر أن الفكر الذي ساد الحقبة التي ظهر فيها هذا التعريف لم يكن يفصل بين الثقافة والحضارة، غير أن المفهومين معا، مع تطور المجتمع وتعدد حاجاته ودوافعه وخاصة فيما يتعلق بالانحدار الاجتماعي، أصبح التمييز بينهما واضحا. فالثقافة تتميز بأنها تراكمية ومكتسبة وتنتقل من جيل إلى آخر، وبالتالي هي نتاج الفكر المجتمعي بما يشتمل عليه من قيم وأعراف وقوانين وفنون ومعتقدات، والحضارة انعكاس لهذه الثقافة أو تلك، وهي تميز أناسا مارسوا وعاشوا التحضر بثقافة معينة.

ü المنظور البنيوي للثقافة

يعد كلود ليفي ستراوس أهم الأعلام البارزين والمؤسسين للأنثروبولوجيا الثقافية، وباعتباره أحد رواد المدرسة البنيوية، عرف بالمنهج الأنثروبولوجي البنيوي في دراسته للظواهر خاصة السلوك الثقافي الذي يتخذ شكل نظم وبنيات اجتماعية كالعائلة وبنية القرابة والتنظيم السياسي والعادات والتقاليد في المجتمعات البدائية، وذلك من أجل تحديد علاقات التأثير والتأثر بينها، إذ يرى في هذا الصدد: إن تحديد ما هو فطري وما هو مكتسب في سلوك الإنسان قد يكون مجالا مثيرا للبحث إذا ما كان هذا التحديد ممكنا"[12]. يستشف من هذا القول، أن بنيوية ستراوس تعمل على إبراز الفوارق البنيوية بين ما يولد مع الإنسان وما يكتسبه باعتباره عضوا في جماعة في علاقته مع البيئة التي يعيش فيها، مع تبيان كيف تقوم الجماعة بوظيفتها بوصفها نظاما اجتماعيا، ومن هذا المنطلق التركيز على الفروق القائمة بين الثقافات البشرية أكثر من التشابه.

الثقافة لها علاقة كبيرة مع الدراسات الأنثروبولوجية، لأن لها السبق في دراستها وتحليل أصولها بالرجوع إلى الموضوعات البدائية التقليدية، والعلاقات التي تربط بين الناس في إطار البيئة المحيطة بهم، و على الرغم من أن الأنثروبولوجيا الطبيعية تلجأ إلى معارف ومناهج متفرعة من العلوم الطبيعية فإنها تؤول إلى حد كبير إلى دراسة التحولات التشريحية والفزيولوجية الناجمة بما يتعلق بنوع حي معين عن ظهور الحياة الاجتماعية واللسان ومنظومة القيم أو بكلام أصح ظهور الثقافة"[13].

 حسب هذا الرأي، يتموقع الإنسان في الوسط، بين الغريزة والعقل، بين البداوة والحضارة، بين التوحش والتحضر، بين الطبيعة والثقافة. الإنسان، من هذا المنطلق، كائن ثقافي وطبيعي في نفس الوقت، والثقافة لا تخص مجتمع دون آخر، كما أنه لا وجود لمجتمع من دون ثقافة هي التي تميزه وتحدد خصوصيته، وهي ميزة لجماعة اجتماعية معينة، تتشكل من أنماط سلوكية معينة وتتضمن ممارسات مشتركة موروثة ومتطورة، تنقسم إلى جانب مادي وآخر معنوي.


إذا كانت الثقافة هي تعبير عن طريقة عيش الإنسان داخل جماعة اجتماعية بما تحمله من طباع ومميزات خاصة، فإنها متعددة الأقطاب والأشكال والمصادر، حيث تتداخل فيها مصادر عدة ترتبط بالإنسان نفسه الذي يصنع هذه الثقافة بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، أما الاعتقاد بأن الإنسانية قد حلت في نمط واحد من الأنماط الجغرافية أو التاريخية فيستحيل أن يسود في تلك المجتمعات أو في مجتمعنا دون أن تكون السذاجة والأنانية قد طبعتها، ذلك أن حقيقة الإنسان لا تكمن إلا في اختلاف اجتماعاته وخصائصه المشتركة في آن معا"[14].

وبهذا المعنى، لا يجب النظر للإنسان من جانب واحد، فلا يمكن الفصل بين العوامل البيولوجية والعوامل الاجتماعية في تكوين المحيط الذي يعيش فيه هذا الإنسان، إذ نجد تداخلا بين العناصر الطبيعية والمعطيات الثقافية. وبالتالي، لا وجود لطبيعة خالصة، وليس هناك ثقافة غير متداخلة مع الطبيعة، مع العلم أن لكل ثقافة حركية وخصوصية خاصة وبنية مادية ومعنوية معينة. يعتمد كلود ليفي شتراوس في دراسته للثقافة على الأساطير والطقوس والعادات والتقاليد وأبنية القرابة بما فيها الزواج الداخلي والزواج الخارجي والتفضيلي والمتعدد...، وتأثيرات هذا كله على العلاقات الاجتماعية ومدى إسهامه في تماسك وتفتت هذه العلاقات.

ومن وجهة نطر أخرى، يرى كلود ليفي ستراوس، حول الثقافة ولغتها التعبيرية المتعددة وعلاقتها بالأنساق الرمزية، أنه يمكن اعتبار كل ثقافة مجموع أنساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين. كل هذه الأنساق تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الحقيقة الطبيعية والحقيقة الاجتماعية، وأكثر من ذلك إلى التعبير عن العلاقات التي ترتبط بها كل من هاتين الحقيقتين بالثانية، وتلك التي ترتبط بها الأنساق الرمزية ذاتها بعضها ببعض"[15]. نستنتج من هذا القول، أن الثقافة عبارة عن تعبيرات لأشكال وأنواع مختلفة نابعة من الممارسة الإنسانية بالخصوص للكشف عن ما هو طبيعي في علاقته بما هو اجتماعي، وهي أشكال رمزية منظمة مادية ومعنوية، من أبرزها وأهمها اللغة باعتبارها وسيلة للتواصل بين الأفراد والجماعات، ويمكن أن تندرج ضمن الدين والفن والعلم كل من العادات والطقوس والتقاليد والعلاقات التجارية من بيع وشراء.

أما عن مركزية اللغة ودورها الأساسي في قراءة وفهم الثقافة، يؤكد ستراوس أنه بدون رد المجتمع أو الثقافة إلى اللغة، يمكن البدء بهذه «الثورة الكوبرنيقية» (...) التي ستمكن في تفسير المجتمع، في جملته، تبعا لنظرية التواصل. والمحاولة ممكنة منذ اليوم، في ثلاث مستويات: ذلك لأن قواعد الزواج والقرابة تصلح لتأمين انتقال النساء بين الجماعات، مثلما تصلح القواعد الاقتصادية لتأمين انتقال الأموال والخدمات، وقواعد اللغة لانتقال معاني الآثار ومغازيها"[16]. هذا يعني أن هناك مقايضة بين هذه الأشكال التي تقوم بينها علاقات، فعلاقات الزواج حسب ستراوس، تكون مرفوقة بإعانات اقتصادية وأن اللغة حاضرة في جميع المستويات، مما يبرز تشابهات أكيدة بينها (أي اللغة) والثقافة.

بالنسبة لستراوس، تعد اللغة مفتاح الثقافة، ومن دون لغة لا يمكن الحديث عن الثقافة، لأنها الوسيلة التي تؤسس للعملية التواصلية بين عامة الناس المنتمين للجماعة، إذ يقول في هذا الصدد: ذلك أن مسألة العلاقة بين اللغة والثقافة هي من أعقد المسائل. أولا، يمكن بحث اللغة كنتيجة من نتائج الثقافة، اللغة، المستعملة في مجتمع ما تعبر عن ثقافة السكان العامة(....). ولكن اللغة، بمعنى آخر، قسم من الثقافة، إذ أنها تؤلف عنصرا من عناصرها"[17].

الألفاظ والرموز والقواعد اللغوية تعبر عن الثقافة المشتركة بين الناس، لأنهم هم من يحاولون صياغة المصطلحات والمفاهيم لتحقيق التواصل بينهم، هذه الصياغة تكون نابعة من تراثهم و من ما هو مشترك بينهم، وبالتالي، تعد اللغة أحد أجزاء الثقافة. إذ يضيف في نفس السياق:يضاف إلى ذلك إمكان معالجة اللغة كشرط للثقافة، وعلى نحو مزدوج: أولا، من ناحية التزامن، إذ يكتسب الفرد ثقافة جماعته بواسطة اللغة، فالطفل يعلم بالكلام ويربى به، ويؤنب بالكلام ويلاطف به"[18]. من هذا المنظور، تصبح اللغة مطلبا أساسيا لبناء الثقافة في مجتمع معين، باعتبارها المشترك بين أفراد الجماعة، وباعتبارها كذلك سياقا لبلوة القيم والعادات والتقاليد وتعزيزها بينهم، ولأنها وسيلة التواصل أو الخيط الناظم للعلاقات المتبادلة داخل الجماعة.

ومن وجهة نظر أخرى، يؤكد ستراوس على العلاقة التلازمية بين اللغة والثقافة، إذ يرى: من زاوية أكثر تجريدا، تبدو اللغة كشرط من شروط الثقافة بالقدر الذي تمتلك به هذه الأخيرة بنية شبيهة ببنيتها. تقومان كلتاهما على مجموعة من التقابلات والعلاقات المتبادلة، أو العلاقات المنطقية"[19]، والتركيز هنا على التركيب التسلسلي الممنهج في بناء اللغة والثقافة، فوجود الثقافة مرتبط بوجود اللغة، حيث التماثل في البناء، وهو الأمر الذي أكده ستراوس في دراسته لأبنية القرابة على أنها تسير وفق مسار اللغة في التشكيل.


مما سبق، يمكن القول بأن هناك علاقات متبادلة بين اللغة والثقافة، بل علاقة جدلية مبنية على التأثير والتأثر. من جهة يظهر أن اللغة جزء وشرط أساسي لوجود الثقافة، لأن قيم ومبادئ الثقافة يتم تداولها عبر اللغة، ومن جهة أخرى تعد اللغة نتيجة للثقافة، لأن قواعدها و رموزها وألفاظها متعارف عليها بين الناس ونابعة من ممارساتهم ومعاملاتهم اليومية. اللغة تنتمي للثقافة التي ينتجها المجتمع، فالبشر يملكون القدرة على توظيف اللفظ، الذي هو رموز تنطق أو أصوات، معاني تحمل دلالات عديدة.

ü المنظور الوظيفي للثقافة

 

يعتبر مالينوفسكي أن الأفراد يمكنهم أن يؤسسوا ثقافة خاصة تنبني على إرضاء وإشباع حاجاتهم، البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية، فهو يرى أن "كل الثقافات، بصرف النظر عن تنوعها في الشكل، تقوم بوظيفة إشباع حاجات عضوية ونفسية عالمية للأفراد. الثقافة، إذن هي أداة يشبع الأفراد عن طريقها تلك البواعث، مثل الجوع والجنس"[20]. ذلك هو ما عناه عندما أعلن أن الثقافة »يجب أن تفهم على أنها وسيلة لغاية، أي بالمعنى الآلي أو الوظيفي»[21]. من هذا المنطلق، ربط الثقافة بجوانبها المختلفة المادية والروحية والاجتماعية بالاحتياجات الإنسانية. وفي هذا الإطار، "أكد على سبع حاجات أساسية يجب إشباعها لاستمرار الكائن البشري: تأمين الطاقة الحيوية، التناسل، راحات الجسد، الأمان، الحركة، النمو، والصحة".[22]

الثقافة لدى مالينوفسكي كيان كلي ووظيفي متكامل، بحيث لا يمكن فهم دور ووظيفة أي جزء فيه، إلا من خلال معرفة علاقته بالأجزاء الأخرى، إذ أنه يرى كل نمط ثقافي، وكل معتقد ديني، أو موقف، يمثل جزءا من ثقافة المجتمع، يؤدي وظيفة في الثقافة، من خلال العلاقات الترابطية والتفاعلية بين جميع أجزاء الثقافة، وأن هذه الثقافة ليس لها معنى ولا دلالة إلى في إطار الكل المتكامل بين جميع الأجزاء المكونة لها.

أما إميل دوركهايم و مارسل موس عملا من خلال أبحاثهما ودراساتهما حول الطبيعة التركيبية للمجتمعات البدائية، من حيث الدين والأخلاق والطقوس والعادات وغيرها من المكونات، على وضع تصنيفات بدائية معينة لهذه المجتمعات، إذ أنه في التصنيف البدائي(...)، حاول إميل دوركهايم و مارسل موس أن يجيبا عن الأسئلة الأساسية حول كيفية نشوء الثقافة الإنسانية. وهما اعتبرا أن الثقافة تصبح ممكنة فقط عندما يتمكن الإنسان من التمييز بين الأشياء أو تصنيفها. وعند الولادة لا يستطيع الإنسان تصنيف الأشياء بل هو يرى فقط تدفق مستمر للصور، وهذا يجعل من الصعب عليه فصل الأشياء عن بعضها. ولكي يطور الإنسان شكلا من الثقافة لابد له أن يوجد نظام لتصنيف الأشياء. وبدون ذلك سوف لن يعثر على معنى للعالم المحيط به"[23]. نستنتج من هذا الكلام، أن إدراك مكونات وعناصر وخصوصيات البيئة المحيطة بالإنسان ينتج عن طريق القدرة على التصنيف والفصل بين كل العناصر المكونة لهذه البيئة، وإدراك العلاقات والروابط بينها، وبهذا تكون له القدرة على التمييز وتطوير الثقافة.

 من هذا المنطلق، يتضح أهمية النسق الاجتماعي عند الوظيفيين في تكوين الثقافة، لأن الفرد يطور ثقافته من خلال وظيفته داخل الجماعة التي توفر له الأرضية الأساسية والخصبة الموروثة من قيم وأخلاق ومبادئ وقوانين خاصة بهذه الجماعة، يندمج فيها هذا الفرد حسب مراحله العمرية ويكتسب خلالها قواعد وأصول وضوابط مشتركة، لأن هذه الثقافة الناتجة بفعل قدرته على التمييز وتصنيف الأشياء هي من تمنحه القدرة على إدراك وتمثل الواقع الذي يعيش فيه.

يؤكد إميل دوركهايم على أن الثقافة هي ذات أصل اجتماعي. ففي كتابه "الأشكال الأولى للحياة الدينية" نراه يوسع النقاش حول التصنيف البدائي ليشمل الأديان. فهو يرى أن الدين يرتكز على التقسيم الرئيسي للعالم إلى مقدس ودنيوي. وهو يستعمل مرة أخرى نموذج الجماعات الأسترالية البدائية ثم يتقدم في النقاش ليؤكد أن النظام الطوطمي يرتبط بقدسية المجتمع"[24]. بالنسبة له، تحتل الثقافة، بما تشتمل عليه من عقائد وشعائر وأخلاق مشتركة، مكانة متميزة في تصنيف المجتمعات البسيطة، الأمر الذي استنتجه واستخلصه في دراسته للجماعات الأسترالية البدائية، وبالتالي هو المحدد الرئيسي للوعي الجماعي داخل المجتمع. هذا الوعي يتميز بتأثيره القوي على الناس وسلطته التي تدمج الفرد في الجماعة بشكل ضمني.

إن الوعي الجمعي يشكل بالنسبة ل دوركهايم عامل أساسي في تطور المجتمع لأنه هو الذي يوجه اختيارات الأفراد من خلال سلطته التعسفية التي تقيد السلوك، وهو ثقافة مشتركة بين جميع أفراد الجماعة الاجتماعية، متوارثة من جيل إلى جيل، فهو لا يعبر عن رغبات واتجاهات فرد معين بعينه بل يعكس توجه وانتماء الجماعة. 


2.الثقافة والهوية

إن أول ما يتبادر إلى الذهن عندما تطرح قضية الهوية على أي شخص هو الإجابة عن سؤال بسيط هو من أنت؟ إذ يحاول كل واحد الإجابة عنه بطريقته الخاصة، وغالبا ما تتضمن الإجابة الاسم الشخصي والعائلي واللغة والدين والمنطقة التي ينتمي إليها....، وقد يطلب منه تحديد هوية شخص آخر وتكون الإجابة بنفس الطريقة، وهذا ما يعكس تصور كل واحد عن نفسه وعن الآخرين، لذلك، تعد الهوية الشكل والطريقة التي يعرف بها الإنسان ذاته والآخرين. يتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية، فالهوية لغويا أن يكون الشيء هو هو وليس غيره،  وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق. والماهية أن يكون الشيء ما هو بزيادة حرف الصلة ما" على الضمير المنفصل هو". والمعنى واحد. قد يجعل البعض الماهية" أكثر عمقا من الهوية". وفي اللغات الأجنبية لكل لفظ منفصل ماهية Essence من اللاتينية Esse وهو فعل الكينونة. ولفظ هوية"Identité  من الضمير Id أي هو"[25].

أما بخصوص مميزات الهوية، ترى إريكا فيشر أنه إذا أمعنا النظر في "الهوية"، فإننا نجدها تفتقد إلى مركز ثابت على الرغم من إصرارها المستمر على التشبث بالحضور Presence والأصل Origin، بالإضافة إلى تموقعها في فضاء تخومي بيني يتراوح عموما بين الأنا والآخر. وما الهوية إلا نموذج مثالي للأشكال الهاربة المهاجرة، وسريعة التحول، وغير المستقرة على حال"[26]. إذن، هي تأبى الاستقرار والجمود، وتخضع للتأثير والتأثر بين الأنا والأخر المخالف، فهي لا تعبر عن رؤية أو وجهة نظر شخص بعينه، أو تحدد في جانب ثقافي محدد دون أخر ضمن نسق شعب معين، وإنما هي منظومة متكاملة شاملة تتداخل فيها جوانب عدة وتعبر عن نسق ثقافي شامل لشعب معين. غير أنها تتأثر بالمستجدات والدواخل الجديدة على الثقافة الأصلية، مما يجعل منها فضاء مشترك أحيانا.

ومن وجهة نطر أخرى، يرى إدورد سعيد حول الهوية، أنها: مبدأ سكوني أساسا يشكل باب الفكر الثقافي خلال العهد الإمبريالي، إن الفكرة الوحيدة التي لم يكن يمسها التغيير إطلاقا عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل نصف ألف من الزمن بين الأوربيين وآخريهم هي أن ثمة شيئا (جوهرانيا) هو نحن" وشيئا هو هم" وكل منهما مستقر تماما. (...). وهو انقسام يعود تاريخيا كما ناقشته في الاستشراق" إلى الفكر اليوناني عند البرابرة، لكن أيا كان من ابتكر هذا النوع من فكر الهوية فإن مع حلول القرن التاسع عشر كان قد أصبح العلامة المانزة للثقافات الإمبريالية(....)، نحن ما نزال ورثة ذلك الأسلوب الذي يتحدد المرء تبعا له بالأمة، التي تستقي هي بدورها، سلطتها من تراث يفترض أنه مستمر دونما انقطاع[27].

يربط إدورد سعيد الهوية بالفكر الاستعماري، الذي ارتبط بالسيطرة الأوروبية على الشعوب المستضعفة، وكانت الهوية هي بوابة الفكر التي ولج منها المستعمر من خلال الدراسات والأبحاث وترجمة الروايات والكتب وتأويل محتوياتها لصالح مصلحته وأهدافه الغاشمة، أي بالمركزية الأوربية وجهودها من أجل تعزيز ثقافتها على حساب الثقافات الأخرى. ويرجع ابتكار الهوية، في نظره، إلى الفكر البربري في العهد اليوناني، وبالرغم مما كانت تعرف به الهوية أصبحت منذ القرن التاسع عشر، تشكل مأزقا بالنسبة للفكر الغربي نظرا لما عرفه العالم من تغيرات ومستجدات نابعة من نضج الفكر الإنساني.

وبهذا، انتقد إدوارد سعيد الأساليب التقليدية التي ترى أن الاعتماد فقط على التراث الأصلي يمكنه أن يساهم في التطوير والتحديث، وبذلك يثور على الهوية المتصلبة والمنعزلة والمنغلقة والمتمركزة حول ذاتها، والتي لا تنتج إلا الصدام والفرقة، ويدعو بالمقابل إلى هوية الانفتاح على المتعدد الإنساني. فالعالم اليوم غزير بالهويات، تتفاعل انسجاما، وتتنافر أحيانا أخرى، وتبحث عن وجود إنساني مشترك بعيدا عن التحكم والسيطرة والتبعية، في تواصل دائم بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، لأن النزعة الإنسانية بطبيعتها تفرض تحطيم التمركز الثقافي، سواء الغربي أو الشرقي أو الإفريقي أو الإسلامي.


وبهذا المعنى، أصبحت الهوية تترجم في مكان ثالث بين العالم والفرد، وبين مختلف عمليات فهم الفرد للذات، إنها عملية لا تنتهي أبدا، وتدفع الأفراد إلى التساؤل والتفكير باستمرار في الطرق المختلفة  لوجودها في مجتمع ما. وتجتمع وتتكامل مجموعة من العوامل في تشكيل الهوية وإعادة تشكيلها، منها اللغة والعادات والتقاليد والطقوس والدين ونوع التربية والمؤسسات الإعلامية وتراكم الخبرات والتجارب الشخصية وغيرها من المكونات التي تشكل ثقافة الفرد وطريقة عيشه في الحياة. فنوع الثقافة السائدة له دور كبير في تحديد نوع الهوية.

تعتبر الثقافة والهوية أمرين مترابطين، لا يمكن الفصل بينهما، إذ أن لكل شعب ثقافة مميزة له تكون بمثابة عنوان لهويته. أما "الهويات يمكن أن تتشكل عبر الثقافات الرئيسية والثقافات الفئوية التي ينتمي لها الأفراد أو التي يشاركون فيها"[28]، فلا يمكن تحديد الهوية الثقافية لشعب من الشعوب في الجانب الديني أو السياسي أو الفني أو التاريخي أو الأدبي أو العلمي مثلا، بل هي مجموع هذا كله بشكل تكاملي ترابطي في جسم ثقافي واحد ليشكل معالم الثقافة العامة الخاصة بالشعب بمختلف روافده وتراكماته التاريخية.

الثقافة تعتبر ركن أساسي في تشكيل الهوية، لأن الفرد أو الجماعة من دون ثقافة يعتبر فاقدا للهوية، وتشكيل الهوية يقتضي الانتماء للجماعة والتقيد بقيودها وتمثل قيمها وعاداتها وضوابطها حتى يصبح فاعلا وممارسا لها، لذلك تعتبر الهوية الثقافية عبارة عن ثقافة ما، أو هوية لمجموعة أو شخص ما، نظرا لتأثر هذا الشخص بهوية المجموعة الثقافية، أو ثقافته التي ينتمي إليها، إذ يعتبر ستيفن فروش (Stephen Frosh)أن "النظرية الحديثة لعلم النفس وعلم الاجتماع تؤكد أن هوية الفرد هي في الحقيقة متعددة وربما سائلة، حيث إنها تتكون عبر التجربة وتترسخ برموز لغوية. والأفراد حين يطورون هوياتهم إنما ينجذبون إلى المعطيات الثقافية الموجودة في الشبكة الاجتماعية المباشرة لهم وتلك الموجودة في المجتمع ككل"[29]. نستنتج من قول فروش أن الهوية تتشكل من الثقافة، ويؤثر في تشكلها كل مكونات المحيط الثقافي والاجتماعي، مثل العادات والتقاليد ونمط العيش واللغة والتعبيرات الفنية والعقائد والقوانين وغيرها.

علاقة الهوية بالثقافة يمكن تمثيلها في علاقة الذات بالإنتاج الثقافي في مجتمع ما، ويفترض ذلك وجود ذات مفكرة وفاعلة ومبدعة تعمل على إنتاج أنماط ثقافية معينة بمواصفات وشروط محددة هو ما يحدد هويتها، وممارسة الإنسان الإبداعية في طريقة عيشه، وأسلوب حياته، وفي توظيف تراثه بطريقة متجددة منتجة، وكل أشكاله التعبيرية المشتركة، هو ما يساعد على بناء الهوية، وهي لا تعرف الاستقرار والثبات فهي متجددة بتجدد أشكال الثقافة، وتخضع للدينامية والتطور أو الموت، وذلك مرتبط بالممارسة الإبداعية للفرد داخل الجماعة.

3.حول المثاقفة

إن العلاقة بين الثقافات تأخذ مجموعة من الأشكال، ويعد الاتصال والتداخل والتماس من أهم أوجه هذه العلاقة، حيث تتداخل الثقافات في ما بينها في تفاعل وتبادل، ينبني على الحوار والتواصل الفكري الذي يحقق التفاهم والتقدم وبناء العمران البشري، بما يعود بالنفع على المجتمع و سيرورة تطوره. بيد أن هذا التفاعل أصبح يحمل في طياته التبعية والغزو، بهدف السيطرة والتحكم في الشعوب المستضعفة من طرف شعوب أخرى قوية. وبالتالي، سيكون لزاما علينا التطرق أولا لمفهوم المثاقفة باعتباره مفهوما مؤسسا وسابقا، وشكلا من أشكال العلاقة بين الثقافات التي تأخذ أوجها مختلفة ومتنوعة.

جاء مصطلح المثاقفة على وزن مفاعلة وهو من فعل ثاقف، "وَ ثَاقَفَهُ مثَاقَفَةٌ وثِقَافَا: فَثَقِفَه كَنَصَرَه: غالَبَهُ فَغَلَبَه في الحِذْقِ، والفِطَانَةِ، وإدْرَاكِ الشَّيْءِ وفِعْلِه"[30]. وبهذا المعنى، ارتبط مفهوم المثاقفة لغة بالغلبة والفطانة وإدراك الشيء. كما يستعمل مفهوم المثاقفة" Interculturalism في الغالب-للدلالة على التفاعل بين ثقافات مختلفة في التأثير والتأثر، وفي التمثل والتبادل (صيغة مفاعلة في اللغة العربية تفيد المشاركة). تحيل المثاقفة"-كما هو معلوم- إلى الاقتباس المتبادل بين الثقافات"[31]


وإذا رجعنا إلى أول ظهور لمصطلح "المثاقفة "Acculturation، فقد كان أنثروبولوجيو أمريكا الشمالية سباقون إلى استحداثه، حيث "تعود أول نشأة لهذا المصطلح إلى عام 1880 على يد الأمريكي "جون ويسلي باول "John Wesley POWELL، والسابقة "Le préfixe" "a" لمفردة "Acculturation" هي مشتقة من السابقة اللاتينية "ad" التي تدل على "الاقتراب أو الدنو." في حين كان الإنجليز يؤثرون استعمال مصطلح "التبادل الثقافي ."Cultural exchange أما الإسبان فقد كانوا يميلون إلى اعتماد مصطلح "المناقلة الثّقافية ."Transculturation بينما فضّل الفرنسيّون التّعبير عنه بمصطلح "تداخل الحضارات ."Interpénétration des civilisations غير أنّ مصطلح أمريكا الشّماليّة "المثاقفة  "Acculturation هو الذي فرض انتشاره وتداوله في نهاية المطاف"[32]. غير أن المفهوم سوف يتطور بعد ذلك، مع بروز تيارات مختلفة ومتعددة، حيث سيعبر بشكل جلي على الاحتكاك والالتقاء والتماس بين الثقافات، وأن هذا الشكل سيتخذ أشكلا متنوعة حسب نوع الثقافة ودرجة قوتها.

وقد عمل الأنثروبولوجي "ملفيل جون هيرسكوفيتش Melville Jean Herskovits " على اقتراح تعريف لمصطلح المثاقفة، إذ يقول: "تشمل المثاقفة جميع الظواهر الناتجة عن الاتصال المستمر المباشر بين أفراد ينتمون لثقافتين مختلفتين، وما يترتب عن ذلك من تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية عند إحداهما أو كليهما"[33]. في حين يعرفها عالم الاجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي" روجي ستيد"Roger Bastide بأنها: "دراسة ما ينتج عن اتصال ثقافتين تتأثر وتؤثر إحداهما في الأخرى"[34]. المثاقفة إذن، من فعل ثاقف تحمل معنى المشاركة في التبادل والتفاعل، وهي تدل على أن الفعل حاصل من طرف الفاعل والمفعول فيه بطريقة تشاركية، وقد تكون هذه المشاركة بين طرفين أو أكثر، حيث هناك علاقات تفاعلية تبادلية بين المتثاقفين، تتيح لكل طرف الأخذ والاستفادة من ثقافة الآخر.

المثاقفة تفيد، في شكلها الطبيعي، معنى التفاعل والمشاركة المتبادلة والحوار بين الثقافات، وبذلك تعد وسيلة من وسائل الانفتاح على الآخر، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الاندماج بشكل كلي في ثقافته، أو الانغلاق في ثقافة الأصل بشكل مطلق، من أجل الاستفادة من الخبرات والتجارب للمساهمة في البناء الحضاري المشترك، فهي تساعد على معرفة الآخر، مثلها مثل التثاقف Acculturation، وتحدد المثاقفة، في أبهى تجلياتها بوصفها سعيا نحو الانفتاح على الآخر من دون الانصهار في ثقافته، وإبراز الذات دون انغلاق مطلق"[35].

إن الميزة التي تنطوي عليها المثاقفة تكمن في كونها تكتسي إلى جانب الثقافة طابعا إنسانيا،" فالثقافة والمثاقفة أمران إنسانيان، ولابد من الالتزام بهما بما هما كذلك، ومن هنا كانت مسألة القيم الروحية مرتبطة بمسألة الالتزام بهما"[36]. إنها في الأصل تفاعل اختياري مفتوح، لا تجنى ثمارها إلا برغبة تبادلية بين المتثاقفين، تنتج عن الانفتاح على ثقافة الآخر من أجل الحوار والتواصل الإيجابي المثمر، ولا يمكن أن تتحقق أبدا في حالة الاختلاط القسري القهري الناتج عن الحروب والاحتلال، إذ ينجم عن ذلك حدوث تشوهات ثقافية لا تتمتع بأية سمة من سمات المثاقفة الطوعية الداعية للحوار والتعايش. بمعنى آخر، المثاقفة تقوم على أساس التساوي والاحترام المتبادل والتسامح والاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف، وهي تراعي التفاعل والتواصل بين الأفراد أو الجماعات المثاقفة بهدف الاغتناء المتبادل، وكذا توفير شروط الثقة والرغبة لتحقيق التفاعل المشترك والاعتراف المشترك لضمان التقدم والتطور المتبادل، وإكساب واكتساب المعارف والعلوم والخبرات والتجارب الإنسانية، لتحقيق نهضة حضارية مشتركة، بعيدا عن التعصب والصدام، والتحكم والسيطرة على الآخر و تقزيم قيمته والحكم عليه بالدنيوية.

من خلال ما سبق ذكره، يمكن القول إن فعل المثاقفة حتمي الحدوث لأنه من المستحيل أن تعيش الثقافة مغلقة، لأن المسألة تتعلق بالإنسان وما يحيط به، ومن هنا يصعب عليها أن تحيا ضمن نظام لغوي ورمزي بمعزل عن العالم وتحولاته الفكرية والعلمية والأدبية. وإذا كانت الثقافة فعلا تؤدي إلى قيام الحضارة وتضمن استمرار تطورها، فإن المثاقفة تفاعل بين الحضارات على مستوى الثّقافات. ما من مجتمع إلا وله ثقافته، حتى وإن كان بدائيا، فبها يدخل في تفاعل ثقافي مع ثقافات أخرى، وعن هذه العلاقة تتولد مثاقفة تنحو نحو الانفعال أو الفعل أو التواصل، وذلك عبر طرق مختلفة منها: الهجرة، الرحلات، الدراسة، الأسفار، الاستعمار، المبادلات التجارية، الجوار، الترجمة... وغيرها، ومن خلال هذه الطرق تؤدي المثاقفة إلى اكتساب عناصر جديدة بالنسبة لكلتا الثقافتين المتصلتين. لكن يبقى السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح، هل المثاقفة دائما لها وجه إيجابي يتمثل في التواصل الحوار بين ثقافتي الأنا والآخر، أم تخفي ورائها السيطرة والتحكم والتبعية؟


4.التناسج الثقافي

جاء مفهوم التناسج في إطار المشاريع البحثية الجديدة التي حاولت تفكيك مفهوم المثاقفة وتحديد خلفياته وأبعاده، بعد ما ساد هذا الأخير في مرحلة ما بعد الاستعمار، كما أكدت على ذلك الدراسات الاستشراقية، إذ لعب أدوارا كبيرة في تكريس فلسفة السيطرة والاستنقاص وإضعاف ثقافة الآخر، وفي مقابل ذلك، الرفع من قيمة ومركزية الثقافة الغربية، مما يجعل السؤال مشروعا في هذا الإطار حول هذا المفهوم الجديد. فلماذا استبعدت المثاقفة؟ وما هي مبررات التناسج الثقافي؟ وهل يعتبر هذا تجديدا و تنويعا مفاهيميا فقط؟ أم برزت الحاجة لإعادة النظر في ترسانة المفاهيم بحكم المستجدات في عالم الثقافة؟

قبل الخوض في تحديد التناسج الثقافي لابد من الوقوف أولا على الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهوم التناسج، ومنه إلى تحديد التناسج الثقافي. فقد جاء مصطلح التناسج على صيغة التفاعل، وأشهر معاني وزن تَفَاعُل، المشاركة بين اثنين فأكثر. أما المعنى الثاني فهو التظاهر ومعناه الادعاء بالاتّصاف بالفعل مع انتفائه عنه. والمعنى الثالث هو التدرّج أي حدوث الفعل شيئا فشيئا. وأما المعنى الرابع فهو المطاوعة"[37].

 ومن هذا المنطلق، يشير التناسج إلى معاني ودلالات متنوعة ومختلفة، متقاربة أحيانا ومتباعدة ومتنافرة أحيانا أخرى، فالمشاركة تتطلب عنصرين أو فردين على الأقل تجمعهما علاقات وقواسم مشتركة، وهذه الأخيرةتتطلب التطويع الذي يحتاج إلى التدرج والتسلسل. أما بخصوص التظاهر والادعاء، وهو الأمر الذي يسير ومفهوم المثاقفة، باعتباره يشير في الأصل إلى التواصل والحوار والموازنة بين طرفين. ويمكن القول كذلك أن التناسج من فعل نسج أي جمع بعضه إلى بعض، ومن المجاز، نسج الكلام إذا لخص الشاعر الشعر: نظمه وحاكه والكذاب الزور: زوره ولفقه"[38]. إنه الجمع والنظم والتركيب بين عناصر وأجزاء متنوعة من أجل تكوين شكل جديد أو نوع جديد مكون من الأجزاء المركبة المنتقاة. وفي نفس السياق، أكدت إيريكا فيشر: "إن استنباط مفهوم النتاسج ولحظة تشكله، ومآزقه ومقوماته، لهو مغامرة حقيقية، إذ أنه من الصعب مثلا ترجمة الكلمة الألمانية Verflechtungen التي تتضمن معاني عدة، منها:"الطي" و"التدخل" و"الربط" و"التشابك" و"الإشكالات المفتوحة. ومع ذلك، استقر الاختيار على  Interweavingبالإنجليزية، والتي سبق أن اقترحت ترجمتها إلى العربية عام 2OO9 ب "تناسج""[39].

 فعلا، إنها مغامرة نظرا لتداخل معاني ودلالات نفس الكلمة من لغات مختلفة. وتضيف فيشر في نفس الصدد، إن اختيار استعارة ترمز إلى عالم النسيج بوصفها لازمة للمنشغلين بسيرورات التناسج، توحي بازدواجية وظيفة "عملية التنسيج" التي تعمل على مستويين: التئام العديد من الخيوط الحريرية في ضفيرة واحدة، وتشابك هذه الضفائر بدورها لتنسج قطعة ثوب واحدة أو شراريب قماش....حيث يصعب عزل عناصر من ثقافة ما عن أخرى، ذلك أنها تخضع لمنطق التحول التاريخي، الجمالي، وموقع الناسج The weaver"[40]. هي إيحاءات وإشارات إلى الطريقة التي تتم بها عميات الجمع والتنظيم والنسج بين مجموعة من العناصر المختلفة، والتي تتوافق بشكل متراكب ومنسوج، ولو لم يتم التمييز بين الأجزاء من أجل إنتاج جديد مخالف للشكل الأول وغير مشابه لكل جزء من الأجزاء المنتظمة.

مما سبق، يمكن القول أن "النتاسج" هو عميلة انتقاء وتنظيم وتركيب وتشابك مجموعة من الأجزاء المتوافقة والمتلائمة والمنسجمة فيما بينها بطريقة مدمجة، لدرجة يصعب التمييز بين عناصرها المتداخلة، مما يعطي شكلا جديدا مختلفا لا يشبه أي جزء من الأجزاء المركبة، حيث يتشكل معه نموذجا مقصودا ومرغوبا.

أما بخصوص "التناسج الثقافي" فهو يتشكل من كلمتين رئيسيتين هما: التناسج والثقافة. فقد أصبحت العديد من الأشكال والعناصر الثقافية محل تأثير وتأثر، بما في ذلك الدين والعادات والقوانين والفنون وطريقة العيش وغيرها بين الشعوب، مما نتج عنه تداخل وتحول عن طريق التفاعل الدائم بين الناس، الأمر الذي يستحيل معه الحديث عن ثقافة نقية مستقلة بذاتها وثقافة غير نقية، ونتيجة لذلك، خضعت الثقافة للتحول والتغير بشكل دائم، مما استحال معه رسم خط واضح بين ما هو لنا وما هو ملك لغيرنا، لكن أيضا هذا لا يعني أنه لا وجود للاختلافات بين الثقافات، وأن هذه الاختلافات ليست ثابتة وأبدية، بل يتم توليدها بشكل دائم.

نتج "التناسج الثقافي" بفعل ما خلفته "المثاقفة" من استغلال وتحكم وإقصاء للشعوب المستضعفة عن طريق الثقافة، "فعلى الرغم مما يثار من نقاش حول المقصود بالتناسج، والذي قد يفهم بوصفه إبدالا فقط لمفهوم المثاقفة. ونشير في سياق حديثنا الراهن، بأن الإبدال أو الاستبدال لا يستفاد منه الانفصال التام دائما. ذلك أن التناسج مبني على منطق آخر للنقاش يبرز العناصر المضمرة في رحلة المثاقفة. كما يعيد إثارة أسئلة أخرى تتأسس على منطق الاستيعاب والتجاوز، لا منطق القطيعة والانفصال..."[41]. وبهذا المعنى، جاء "التناسج الثقافي" من أجل الكشف عن المضمر وإعادة الاعتبار لثقافة الهامش التي نعتت دائما بالفارغة والسلبية في مقابل ثقافة المركز من خلال رؤية واضحة المعالم تتجسد في طريقة وشكل ومعايير التفاعل والترابط بين الثقافات.

يمكن القول، إن "التناسج الثقافي" هو عملية تناسجية بين ثقافتين أو أكثر، غربية أو غير غربية، تنبني على استلهام أجزاء أو عناصر أو مكونات أو أشكال معينة من ثقافة لإدماجها في ثقافة أخرى مخالفة أو مشابهة، بعد عمليات الانتقاء والتنظيم والتركيب بطريقة متوافقة ومنسجمة ومتناغمة لتشكيل شكل أو نوع ثقافي أو تعبيرات ثقافية مقصودة ومرغوبة، في حلة جديدة مخالفة لكل الأجزاء المنسوجة، والإدماج هنا يطرحنا أمام التعقيد الذي تتم به عملية التركيب.

يمكن وصف تناسج الثقافات بكونه جمالية معينة، إنه استشراف على مستوى الثقافة لشيء سيصبح واقعا اجتماعيا، إذ أنه يقوم على سيرورة تفاعل ثقافات معينة، حيث تتداخل الثقافات دون مسح اختلافاتها أو إقصاء بعضها بعضا، لأن الأمر لن يبقى حكرا على ثقافة الآخر، بل سيتجاوزه إلى ثقافة الأنا التي يمكنها كذلك المساهمة في إغناء التحول الثقافي والرفع من قيمة وفعالية ثقافتها أما الآخر، من أجل تمثل حقائق جديدة هي حقائق المستقبل. لكن، هل يمكن أن يتحقق مشروع "التناسج الثقافي" فعلا؟ هل سيكون له آثار إيجابية على العلاقات بين الشعوب خاصة؟ وهل يمكن من خلال البحث في بعض النصوص المسرحية على وجه الخصوص أن نجد معالمه وتجلياته؟

  خاتمة 

عرف مفهوم الثقافة مجموعة من التحولات على مر التاريخ، اكتسب خلالها دلالات ومعاني مختلفة ومتشعبة، بدأ من الدراسات الأنثروبولوجية التي خصته بالدراسة والتحليل في علاقته بالمجتمعات البدائية خاصة مع كلود ليفي ستراوس، إلى حقل علم الاجتماع الذي حاول ربطه بخصوصيات وظروف وطريقة عيش الإنسان اجتماعيا في علاقته مع ما يحيط به. فإذا كان إدوار تايلور أول من اقترح تعريفا مفهوميا علميا للثقافة، فهو ليس أول من استخدم هذا المصطلح، وهو نفسه كان، في استخدامه لهذا المصطلح متأثرا مباشرة بعلماء الإناسة الألمان الذين قرأ لهم،  لا سيما غوستاف كليم  G.Klimm الذي كان يستخدم كلمة  kultur بمعنى موضوعي.

فإذا كانت الثقافة موضوعة من الموضوعات التي تدرس في مختلف التخصصات الاجتماعية خاصة، فإن أهم طابع يميزها هو أنها مكتسبة وتختلف عن ما هو طبيعي، كما أنها انعكاس لطريقة عيش الإنسان، وطريقة تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، كما أنها مظهر من مظاهر الحياة، لأن كل جماعة أو شعب له طريقة في العيش تختلف عن الآخر، بحكم الدين والعادات والتقاليد والطقوس المميزة له، أي مخزون الذاكرة الجماعية أو الضمير الجمعي الخاص به. وبهذا المعنى، تعد الثقافة ميزة خاصة وعامة في نفس الآن، إذ أن هناك خصائص ومميزات ثقافية تتعلق بجماعة اجتماعية معينة مما يميزها عن الأخرى، كما أن هناك عناصر ومميزات وقواسم تجتمع فيها جماعات اجتماعية متعددة داخل نفس الشعب أو الدولة، وقد تكون هناك قواسم مشتركة بين الشعوب والدول.

وإذا كانت الثقافة عند البعض هي البوابة التي يمكن من خلالها الولوج إلى الشعوب المسماة مستضعفة والسيطرة عليها من أجل تكريس المركزية الغربية وفق ثنائية الأنا والآخر، الضعيف والقوي، وغيرها من المفاهيم، فإنها عند البعض الآخر الفضاء البيني الرحب للتفاعل والتواصل الدائم بين الثقافات، وفق لغة كونية للتلاقح والانفتاح والتناسج الثقافي الدائم، بما يفتح المجال لتحقيق نهضة حضارية مشتركة تأخذ فيها كل ثقافة قيمتها التي تستحقها دون إقصاء.

بيبليوغرافيا

- عبده الراجحي، التطبيق الصرفي، دار النهضة العربية، بيروت، دط. دت.

- دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: د. منير السعيداني، مراجعة: د.الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، لبنان، مارس 2007.

- هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ترجمة: حاتم حميد محسن، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2010.

- أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت- لبنان، 2005.

- اموندليتس، كلود ليفي ستراوس، البنيوية في مشروعها الأنثروبولوجي، ترجمة: ثائر ذيب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، ط2، 2010.

- كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة: مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977.

- كلود ليفي ستراوس، الفكر البري، ترجمة: نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1987.

- مالينوفسكي و راد كليف براون، ضمن: نظرية الثقافة، ترجمة د. علي سيد الصاوي، مراجعة أ. د. الفاروق زكي يونس، سلسلة عالم المعرفة، عدد 223، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، يوليو 1997.

- حسن حنفي حسنين، الهوية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2012.

- إريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ترجمة وتقديم: خالد أمين، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة 22، ط1، طنجة- المغرب،2016.

- إدورد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الأدب للنشر والتوزيع، ط4، بيروت-لبنان، 2014.

- السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس في جواهر القاموس، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، مصطفى الحجازي، باب الفاء، فصل الثاء والفاء، مطبعة حكومةكويي، 1996.

- Melville Jean Herskovits, Les Bases de l’Anthropologie Culturelle, Maspero, Paris, 1967.



[2]دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: د. منير السعيداني، مراجعة: د. الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، لبنان، مارس 2007، ص9.

[3]هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ترجمة: حاتم حميد محسن، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2010، ص 7.

[4]دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص 17.

[5]دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص17.

[6]دنيس كوش، المرجع السابق، ص 16.

[7]دنيس كوش، المرجع نفسه، ص 18-17.

[8]أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت- لبنان، 2005، ص79.

[9]أنتوني غدنز، المرجع السابق، ص 82.

[10]هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ص 40.

[11]دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص 30.

[12]اموندليتس، كلود ليفي ستراوس، البنيوية في مشروعها الأنثروبولوجي، ترجمة: ثائر ذيب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، ط2، 2010، ص217.

[13]كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة: مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977، ص406.

[14]كلود ليفي ستراوس، الفكر البري، ترجمة: نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1987، ص 134.

[15] دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص 78.

[16]كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، ص 107.

[17]كلود ليفي ستراوس، المرجع السابق، ص 90.

[18]كلود ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، ص 90.

[19]كلود ليفي ستراوس، المرجع السابق، ص 90.

[20]مالينوفسكي و راد كليف براون، ضمن: نظرية الثقافة، ترجمة د. علي سيد الصاوي، مراجعة أ. د. الفاروق زكي يونس، سلسلة عالم المعرفة، عدد 223، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، يوليو 1997، ص 267.

[21]مالينوفسكي وراد كليف براون، المرجع السابق، ص 267.

[22]مالينوفسكي وراد كليف براون، المرجع نفسه، ص 284.

[23]هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ص 17.

[24]هارلمبس وهولبورن، المرجع السابق، ص 19.

[25]حسن حنفي حسنين، الهوية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2012، ص10.

[26]إريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ترجمة وتقديم: خالد أمين، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة 22، ط1، طنجة- المغرب،2016، ص 13.

[27]إدورد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الأدب للنشر والتوزيع، ط4، بيروت-لبنان، 2014، ص 23.

[28]هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ص 16.

[29]هارلمبس وهولبورن، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، ص 15.

[30]السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس في جواهر القاموس، تحقيق: عبد الفتاح الحلو، مصطفى الحجازي، باب الفاء، فصل الثاء والفاء، مطبعة حكومةكويي، 1996، ص .63

[31]إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ص 14.

[32]سارة بوزرزور، الترجمة و المثاقفة، مجلة البدر، المجلد 09،  العدد 07، منشورات جامعة بشار، الجزائر، 2017، ص 209-210

[33]Melville Jean Herskovits, Les Bases de l’Anthropologie Culturelle, Maspero, Paris, 1967, p 205.

[34]سارة بوزرزور، الترجمة و المثاقفة، المرجع السابق، ص 210.

[35]إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ص 14.

[36]تسيير شيخ الأرض، الترجمة بين الفعل والانفعال الثقافي، دار الوحدة السورية، سورية،  1989، ص14.

[37]عبده الراجحي، التطبيق الصرفي، دار النهضة العربية، بيروت، دت، دط، ص 36.

[38] السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس في جواهر القاموس، ص 237.

[39]إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ص 50.

[40]إيريكا فيشر ليشته، المرجع السابق، ص 51.

[41]إيريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ص52.

...............................................

. موقع الأستاذ الصديق الصادقي العماري

 212664906365+ adkorasat1@gmail.com

تعليقات

  1. إن المثاقفة كما عرفها علماء الاناسة هي تفاعل بين الثقافات وتأثير أو تأثر متبادل نتيجة الاتصال الحاصل بينها واحتكاك بعضها ببعض.وهذا المعنى هو المعبر عنه بمصطلح acculturation في اللغتين الفرنسية والإنكليزية.وتتجلى مظاهر هذه المثاقفة فيما تقتبسه ثقافة ما من غيرها من الثقافات وتعمل على استيعابه وتأصيله في كيانها حتى يغدو جزءا منه بعد أن كان في المنطلق طارئا على ذلك الكيان ووافدا عليه من الفضاء الخارجي.
    ولا تقتصر مظاهر المثاقفة على جانب الأخذ والاقتباس فقط بل تتمثل كذلك في جانب البذل والعطاء الذي يمكن أن تؤثر به ثقافة ما في غيرها من الثقافات بحكم المخالطة والجوار أو بفضل رقيها وانتشارها وإشعاعها وذلك لان المثاقفة عملية مشتركة تقوم على مبدأي الأخذ والعطاء وان كانت مسالة التأثر والاستيعاب يمكن أن تحصل من جانب دون آخر كما يمكن أن تكون كلية أو جزئية.
    وتتحكم في عملية المثاقفة هذه عوامل متعددة ومتنوعة منها ما هو موضوعي واضطراري تقتضيه الحاجة والمصلحة وتستدعيه علاقات المجتمعات والشعوب فيما بينها ويجسده طموحها إلى النمو والتطور وحرصها على تحقيق توازنها مع الثقافات الأخرى.ومنها ما هو ذاتي واختياري يحدوه التطلع إلى ما عند الغير واستطراف ما عنده بحثا عن كل طريف وجديد كسرا للرتابة وميلا إلى التجدد والفرادة والتميز. كما تتحكم في هذه المثاقفة عوامل أخرى لا تتصل بالدواعي الحافزة عليها وانما تتعلق بالظروف الحافة بها وبسياق إجرائها وبالوسائل المستخدمة فيها وهي عوامل مؤثرة في طبيعتها وموجهة لسيرها ومحددة لسماتها وملامحها ومشكلة لخصائصها.

    ردحذف
  2. مهما تعددت أشكال المثاقفة وتنوعت أطرها فان أصول نشأتها تدل على أنها ظاهرة طبيعية قديمة قدم التاريخ وان لم تكن على مستوى واحد من الحضور والتجسد في مختلف الأحقاب التاريخية.إلا أن ذلك الحضور قد ظل قائما إن قليلا أو كثيرا حتى في المجتمعات البدائية وذلك لأنها ظاهرة طبيعية محايثة للوضع البشري وللوجود الإنساني. وتتمثل تلك المحايثة في خضوع ظاهرة المثاقفة لعاملين أساسيين من العوامل المشكلة لذلك الوضع وارتهانها بخاصيتين ثابتتين من خصائص ذلك الوجود. ونعني بهمها أولا تعدد المجتمعات البشرية وتنوع ثقافاتها عبر التاريخ وثانيا نزوع الكائن البشري نزوعا فطريا إلى التواصل مع غيره .وهاتان الحقيقتان هما اللتان تنهض عليهما المثاقفة مهما تنوعت أشكالها وتعددت أطوارها.وسيظل الأمر كذلك ما استمر التواصل الإنساني وما بقي التنوع الثقافي .
    فالمثاقفة لا تستوي ولا تستقيم دون تواصل بين أفراد النوع البشري وبين المجتمعات الإنسانية. والإنسان كائن تواصلي بالطبع أي منذ أن أدرك أن تواصله مع الآخر أمر ضروري لبقاء نوعه وان انطواءه على ذاته ورفضه للآخر ليس بالضرورة في صالحه بل من شانه أن يهدد كيانه ويجعله هدفا للفناء والاندثار. وقد نشا الوعي بهذه الحقيقة لديه لحظة إصغائه إلى صوت العقل وإقلاعه عن الاستجابة إلى نداء الغريزة وهي اللحظة التي سيطر فيها على ملكاته واستكمل بها فطرته وطبيعته الإنسانية. (2)
    وانطلاقا من هذا الوعي الذي حبر العلامة ابن خلدون في وصفه صفحات رائعة في مقدمة تاريخه (3) نشا الاجتماع الإنساني وبرزت المجتمعات المختلفة إلى الوجود ولكنها ظلت في حاجة أيضا إلى التواصل فيما بينها عبر عقد الصلات وربط العلاقات خدمة لمصالحها وكان الجوار الجغرافي بين تلك المجتمعات من الوسائل الأولى أو الوسائط المبكرة لإنجاز ذلك التواصل.ولم تكتف بذلك الوسيط الطبيعي فعملت على ابتكار وسائط أخرى ما انفكت تجتهد في تحسينها وتطويرها كلما تقدم الزمن وتطورت الثقافات. وكان من النتائج الحتمية لذاك المد التواصلي حدوث ظاهرة التثاقف أو المثاقفة بين المجتمعات الإنسانية.
    وبناء على هذا الواقع التاريخي لا نكاد نجد عند التأمل و إمعان النظر مجتمعا إنسانيا لم يعرف هذه الظاهرة أو استمر وجوده في غنى عنها فكل الثقافات قد استفادت من غيرها إن قليلا أو كثيرا وخاضت غمار تجربة المثاقفة في مرحلة ما من مراحل تاريخها. ولم يعد ثمة وجود اليوم لثقافة يمكنها أن تدعي الصفاء العرقي شانها في ذلك شان المجتمعات اللهم إلا ما شذ وندر من مجموعات نائية أخذت طريقها إلى الزوال الحتمي مؤكدة بذلك القاعدة في ضرورة الأخذ بالمثاقفة.

    ردحذف
  3. فقد مر تشكل الثقافة عبر محطات تاريخية، ولكل مرحلة خصوصيات معينة حسب المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والعرقية وغيرها، وفي كل مرحلة كانت تتلون بتلوينات العصر التي تحتكم إليها. فقد اهتمت الدراسات الأنثروبولوجية بالأشكال الثقافية البدائية للشعوب والأمم، ولها السبق دراسة الثقافة وتحليل أصولها بالرجوع إلى الموضوعات البدائية التقليدية، والعلاقات التي تربط بين الناس في إطار البيئة المحيطة بهم، كما اهتمت الدراسات الاجتماعية بعناصر وأشكال الثقافة ودورها في تشكل الجماعات. مما يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة نراها ضرورية مثل: ما مفهوم الثقافة؟ وما أهم الاتجاهات النظرية التي حاولت دراستها وتحليلها؟ وما علاقة الثقافة بالهوية؟ والمقصود بالمثاقفة؟ وما هي آليات التحول من المثافقة إلى التناسج الثقافي؟

    ردحذف

إرسال تعليق

يمكنكم كتابة تعليق كقيمة تفاعلية مع الموضوع: إضافات، أو تساؤلات، أو انتقادات علمية، أو توجيهات، أو ملاحظات....

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

مجلس تدبير المؤسسة آلية للتأطير والتدبير التربوي والإداري

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

إعلان خلاصات2

مشاركات

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

الجزء الأول: قراءة في كتاب ''المسألة القروية في المغرب''. تأليف الدكتور عبد الرحيم العطري

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3