مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022


مجلة كراسات تربوية، العدد السابع 07، فبراير2022


تقديم: حول بناء المعرفة العلمية

ذ. الصديق الصادقي العماري

مدير ورئيس تحرير مجلة كراسات تربوية



تعتبر المعرفة ضرورة إنسانية، لأنها سبيل للوصول إلى الحقائق التي تساعد الإنسان على فهم الوقائع والأحداث، إذ بفضل المعلومات والخبرات والأفكار التي يحصل عليها يستطيع أن يتعلم كيف يجتاز العقبات التي تحول دون بلوغه الأهداف المنشودة، ويعرف كيف يضع الاستراتيجيات التي تسمح له بتدارك الأخطاء واتخاذ إجراءات جديدة تمكنه من تحقيق أمانيه في الحياة. كل ذلك لن يتحقق إلا إذا بلغ درجة معينة من الفهم والإدراك لعناصر ومكونات المعرفة وتقنيات الوصول إليها، باعتبارها إدراك صور الموجودات والأشياء على ما هي عليه، وهي مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم بخلاف العلم، وتقال أيضا على استتباب المحصول المُدرك خضوعا إذا تكرر إدراكه. فإن المدرك إذا أدرك شيئا فحفظ له محصولا في نفسه ثم أدركه ثانيا، مع إدراكه له أنه هو ذلك المدرِك الأول، قيل لذلك الثاني بهذا الشرط معرفة. 
مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022
أما بناء المعرفة العلمية فليس بالأمر السهل، لأنه يتطلب ثقافة علمية متكاملة، ومجموعة من الشروط والضوابط والتقنيات التي على الباحث أن يكون مدركا لها، ومنها التمكن من تخصصه بشكل كبير بالدرجة الأولى، غير أن ذلك لا يكفي لاختيار واقعة اجتماعية تؤيد فرضا أو تفند آخر، أو لبلوغ درجة العلمية بالشكل المطلوب في إنجاز الدراسات البحثية، بل عليه أن يكون، بالإضافة إلى ذلك، منفتحا على تخصصات عصره، مدركا بشكل جيد لطبيعة العلاقات التي تربط العلوم فيما بينها ونقط الاختلاف. لأن واقع المجتمع يُظهر تعقيدا واضحا أكثر مما يمكن أن نتصور، وأكثر تشبيكا وتداخلا وتركيبا مما نعتقد، والباحث الذي يمكن أن يدرك هذا التعقيد والتركيب في الواقع هو الذي درس كثيرا، وقرأ كثيرا، وسافر كثيرا، وجرب كثيرا، وأخطأ كثيرا، وتمكن من القضاء على فرص الخطأ والاستفادة منها.
لذلك كانت المعرفية العلمية نسقية بالضرورة وتبنى على أساس الخبرة والتجربة. ومن مميزاتها نذكر "التراكمية" التي يمكن أن تتحقق وفق مستويين رئيسيين، مستوى عمودي يتمثل في كون الباحث يرجع إلى دراسة ظاهرة سبق البحث فيها، على أن يساعد ذلك في الكشف عن حقائق ونتائج جوهرية لم تكن معروفة من قبل، أي تقديم قيمة علمية إضافية إلى ما تم التوصل إليه سابقا، فمثلا، البحث في طبيعة ″المادة″، كان أول ما لفت انتباه الإنسان على الأرض، غير أن هذا البحث حدث كما نتعامل مع هذه المادة في حياتنا العادية، وكما ندركها بحواسنا، فهذا ماء، وتلك النباتات، وذلك هواء، وتلك جبال وأشجار وغيرها، لكن في العصر الحالي يبلغ البحث في المادة ليس على المستوى الجزيئي والذري فحسب، بل تجاوزه إلى أكثر من ذلك في سياقات اجتماعية وتربوية وتاريخية وغيرها. وبهذا المعنى كلما توالت الأبحاث والدراسات العلمية على مر التاريخ إلا و أضيفت نتائج وحقائق جديدة إلى العلم والمعرفة ومن مميزات المعرفة العلمية كذلك "التنظيم" كخاصية أساسية للمعرفة العلمية، يرتبط بالتقيد بأمور معرفية ومنهجية أساسية، وموجهة صوب تحقيق الأهداف المقصودة، لربح الوقت والجهد، وإلا سيسقط الباحث في العشوائية وربما التيه في مجالات وتخصصات وحقول معرفية هو في غنى عنها، أي أننا لا نترك أفكارنا تسير طليقة لوحدها، وإنما نرتبها بطريقة منظمة وفق مسار محدد، بوعي وإدراك، ونبذل جهدا مقصودا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها. ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، وأن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحث فيه، وكلها أمور خاصة تحتاج إلى مران خاص، وتصقلها الممارسة المستمرة. 
مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022
فالباحث الذي يستخدم أدوات البحث العلمي في دراسته، ويعتمد الأمانة العلمية، يمكن أن يصل إلى ربط الأحداث وإيجاد بعض العلاقات السببية بينها، ومن ثم محاولة وضع قوانين ومفاهيم يمكن تعميمها والاستفادة منها، وهذا ما يسمى بالسببية. إذ أن السبب يتمثل في مجموع العوامل أو الشروط وكل أنواع الظروف التي متى تحققت ترتب عنها نتيجة أو نتائج معينة، ونستطيع القول حينها بوجود علاقة سببية بين متغيرين. أما الموضوعية فتظهر في غياب ذات الباحث في أحكامه واستنتاجاته، ونعني بذات الباحث مزاجه وأحاسيسه وثقافته وعاداته وتقاليده التي راكمها مع مرور الوقت، أي جعل مسافة كبيرة بين الذات الباحثة وموضوع الدراسة. فأن تكون موضوعيا يعني ألا تتأثر بدوافعك وقيمك ومواقفك الاجتماعية. من جهة أخرى، الموضوعية العلمية موقف وحكم، ولا يمكن أن تكون امتناعا عن اتخاذ موقف، أو توقفا عن إصدار حكم، فهي تدل على محتواها دلالة مباشرة، لأن الحكم الموضوعي حكم قد التزم بشروط وضوابط وسياق الموضوع المحكوم عليه، وهو يعني تقديرا لمدى قربه من أصله ومادته، وهذا التقدير يمتد على مستوى يجمع في علاقة وطيدة بين الذات وبين محتوى حكمها.
بناء المعرفة العلمية يتميز بالشمولية ولا يقتصر على أمثلة للظاهرة بشكل فردي، بل تنطبق على مختلف نماذج وأمثلة الظاهرة المدروسة، لأن النتائج التي ستؤول إليها الدراسة يجب أن تكون قابلة للتطبيق في سياقات مختلفة ومتعددة على مختلف النماذج والسياقات مهما اختلفت. فالظاهرة المدروسة تعتبر نموذجا قابلا لأن تكون له منطلقات وأبعاد مشتركة مع نماذج أخرى مستقبلا، والأمر لا يقتصر على الظاهرة لوحدها في بناء المعرفة العلمية بل حتى بالنسبة للأفراد والجماعات والعقول التي ستستقبل هذه المعرفة ونتائجها وتشتغل بها. لذلك كانت المعرفة العلمية معرفة شاملة، بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التجربة اليومية المألوفة.
مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022
فالنتائج التي تتولد عن الدراسة العلمية تفرض نفسها على الجميع ولن تكون محل نزاع أو خلاف حولها، لأنه من المفروض فيها أن تكون قابلة للتعميم، لأن نتائجها أصبحت قانونا قابلا للتطبيق والتوظيف، أي أن العلم شامل لأن قضاياه تنطبق على جميع الظواهر التي يبحثها، وبمعنى أن هذه القضية تَصْدق في نظر أي عقل يلم بها. فالحقيقة العلمية قابلة لأن تنتقل وتُقبل من طرف الأفراد الذين يتوفرون على القدرات والملكات العقلية للاستيعاب والفهم والاقتناع بها، فليس الجميع مؤهلا لإدراك نتائج العلم وحقائقه. وبهذا تعد المعرفة العلمية حقيقة عامة وشاملة، تصبح في ملك الجميع وتتجاوز الشخص لمكتشفيها، فهي لا تفرض نفسها إلا إذا كانت يقينية، أي أن صاحبها تيقن منها علميا، فأصبح يستطيع إثباتها بأدلة وبراهين وحقائق وأسانيد موضوعية لا تحمل الشك، وهذا ما يعرف باليقين العلمي، لأن النتائج التي نتوصل إليها تكون مستنبطة من معطيات موثوق من صحتها.
إن مبدأ اليقينية في المعرفة العلمية يرتبط بجملة من الأدلة والبراهين والحجج التي تفرض على الجميع التسليم بالنتائج والحقائق التي تأتي بها نتائج العلم، بمواصفات وأساليب موضوعية لها مكانتها وقيمتها في صفوف العلم والمعرفة، وبالتالي النزوع إلى التخلص من كل الأوهام والمعتقدات الشخصية، وكل ما يدخل في تركيبة الحس المشترك، من أجل تفادي حالات الاختلاف والخلاف حول الحقيقة العلمية المحصلة. بيد أنه بالرغم من الاعتماد على أدلة وبراهين ومناهج وطرق علمية صحيحة، لا يعني ذلك أن هذه النتائج العلمية ثابتة، فالعلم لا يعرف الاستقرار والثبات فهو يتغير حسب ظروف الحياة وحاجات ودوافع الناس، وكذا نوع المشاكلات الاجتماعية التي تحتاج إلى حلول ولو بشكل نسبي. فالظواهر الاجتماعية في تغير دائم لأن البيئة والمجال والإنسان دائما في تجدد مستمر.
مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022
ختاما، يمكن القول أننا أمام إشكالات علمية عميقة تتمثل في العجز عن إمكانية تحديد إجابة دقيقة وشاملة لمجمل الأسئلة التي يمكن أن ترتبط بالمعرفة العلمية وآليات ضبطها بشكل دقيق في عصرنا الحالي، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كذلك صعوبة إيجاد معيار موحد وجاهز يمكن التسليم به، وإنما الأمر يتعلق برؤى واتجاهات عديدة تتأسس على أطر مرجعية محددة من تخصصات متعددة، وذلك راجع لتعدد أنواع المعرفة نفسها وتشعبها وتداخلها، مما يجعلنا أمام نظرية للمعرفة تتراوح بين الطبيعي والميتافيزيقي، وبين الإحساس والعقل، وبين الواقعي وغير الواقعي. وبهذا نكون أمام محاولات وتجارب طليعية لا تأبى الاستقرار في تجديد مستمر، لكن للأمانة العلمية هناك شروط وضوابط لا خلاف حولها بين الباحثين يجب أن تخضع لها كل دراسة أو بحث.
سيرا على نهجا في بناء معرفة علمية رصينة ومتكاملة في جميع إصداراتها، تقترح مجلة " كراسات تربوية " في عددها السابع على قرائها الأوفياء مجموعة من المقالات، تسعى من خلالها المجلة إلى مقاربة الظاهرة التربوية وما تطرحه من إشكالات، خصوصا وأن هذه الظاهرة تتجاذبها تيارات علمية عدة وفق أبعاد مختلفة. وإيمانا منها بأن التربية شاملة ومتشعبة وتحتاج إلى رؤى بروافد مختلفة تتقاطع فيها مختلف الحقول الإنسانية والاجتماعية التي تعنى بالتربية والطفل والمدرسة... فإن المجلة تحاول التأسيس لرؤية علمية منفتحة يمكن الاستفادة منها في تحقيق التراكم والتقاطع المعرفي.
مجلة كراسات تربوية.العدد السابع 07.فبراير2022





.................الإصدارات السابقة...............

 موقع الأستاذ الصديق الصادقي العماري

 212664906365+

 adkorasat1@gmail.com

 

تعليقات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

إعلان طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية. العدد (13) فبراير 2024

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي بعنوان: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

خلاصات

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

سوسيولوجيا الفيلم الوثائقي الواقعي -أسس وقضايا-

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

برنامج فنون الفرجة الشعبية الحلقة7: فرجة احتفالية أحيدوس بالجنوب الشرقي

إعلان خلاصات2

مشاركات

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

برنامج فنون الفرجة الشعبية الحلقة7: فرجة احتفالية أحيدوس بالجنوب الشرقي

التربية الجمالية بالمدرسة الابتدائية

تخطيط التعلمات: نموذج جذاذة في مادة اللغة العربية

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

إعلان خلاصات3

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

خلاصات أخرى

المشاركات الشائعة

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

ندوة وطنية بالرشيدية حول موضوع : أولويات المدرسة المغربية لتحقيق رهانات التنمية

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي/الصديق الصادقي العماري

دعوة للمشاركة في تأليف كتاب جماعي تحت عنوان: " ديناميات وتحولات المجتمع المغربي "

إعلان خلاصات4

مشاركات

سوسيولوجيا السينما: الصورة والمجتمع

جماليات التلقي في فنون الأداء :المسرح والسينما نموذجا

إيقاعات التعلم وأنماطه: من الفروقات الفردية إلى تحقيق نفس الأهداف. الصديق الصادقي العماري

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم

أخطاء الممارسة المهنية، الفرق بين الجذاذة والبطاقة التقنية. الجزء الثاني

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي في موضوع: "الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحي: إشكالات ومقاربات" تنسيق: د. عبد القادر محمدي

pub3